تصاعدت في الأشهر الأخيرة أعمال العنف ضدّ النازحين السوريين إلى لبنان على خلفية التمييز العنصري. وتعدّدت أشكالها بين الاعتداء بالضرب المبرح الذي قد يفضي إلى الموت في بعض الحالات، وطردهم من منازلهم وأماكن عملهم وتشريدهم من منطقة إلى أخرى، وفصلهم من وظائفهم تحت تهديد العنصريين لأرباب الأعمال، وإيداع الآلاف منهم في السجون تحت التوقيف الاحتياطي سنوات دون محاكمة، وتسليم بعضهم لأجهزة النظام الحاكم في سوريا ليلقوا مصيرهم المجهول لدى تلك الأجهزة التي عنوانها الإجرام. بل وانتقلت ممارسات التمييز العنصري إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة حيثُ زايد السياسيون والصحفيون والإعلاميون بعضهم على بعض في التحريض على كلّ ما هو سوري في لبنان، وراحوا يُظهرون النازحين السوريين على أنّهم هم سبب الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان. ثمّ تصاعد الكلام والجدل في شأن النازحين السوريين مؤخّرا مع تزايد الأخبار عن المراكب التي يستقلّها السوريون النازحون من شواطئ لبنان إلى دول أوروبا وبخاصّة إلى قبرص التي أعلنت عدم قدرتها على استيعاب المزيد من اللاجئين السوريين في أراضيها، حتّى إنّ الرئيس القبرصي زار لبنان والتقى بكبار المسؤولين، ثمّ عاد وزاره مرّة أخرى برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية للتفاهم مع السلطة في لبنان على صيغة لوقف تدفّق النازحين عبر البحر من الشواطئ اللبنانية إلى قبرص. وقد كان واضحا لدى المراقبين أنّ المسؤولين اللبنانيين حاولوا استثمار هذه القضية لابتزاز الأوروبيين ماليا وسياسيا؛ أمّا ماليا فللضغط على الاتّحاد الأوروبي لدعم لبنان بمبالغ نقدية مقابل الحدّ من أعداد المراكب المتّجهة إلى شواطئ أوروبا، وأمّا سياسيا فللضغط على الاتّحاد الأوروبي لإعادة نظره في سياسته تجاه النزوح السوري إلى لبنان حيث يصرّ الاتّحاد الأوروبي وكذا الولايات المتّحدة الأمريكية على أن يبقى لبنان فاتحا أبوابه للنازحين السوريين ويرفضون أيّة إجراءات لترحيلهم قسرا إلى الداخل السوري.
لا يخفى على أحد أنّ أهمّ عوامل النزوح السوري إلى لبنان منذ حوالي ثلاث عشرة سنة هي المجازر وأعمال التدمير المنهجي للمدن والقرى وممارسات الاعتقال والتعذيب والتشريد التي يمارسها النظام المجرم وحلفاؤه في الداخل السوري بحقّ أهل سوريا، وتحديدا بحقّ الغالبية المسلمة فيه. وهذه ممارسات استمرّت طوال هذه السنوات ولم تتوقّف. وفوق ذلك كلّه فإنّ الذين لم يشرَّدوا بسبب هذه الممارسات شرّدتهم الضائقة الاقتصادية وانعدام فرص العمل في الداخل السوري.
في بداية الحرب في سوريا ومع تدفّق النازحين بأعداد كبيرة انقسمت الفئات السياسية اللبنانية في موقفها من هذا النزوح تبعا لانتمائها الطائفي أحيانا ولمواقفها السياسية أحيانا أخرى. فالفريق الأوسع من المسلمين فتح ذراعيه لهؤلاء النازحين تعاطفا معهم بوصفهم أبناء أمّة واحدة تجمعهم قضيّة واحدة والهموم المشتركة. أمّا زعماء النصارى فقد انقسموا في بداية سنيّ الثورة السورية بين رافض لهؤلاء النازحين على خلفية طائفية ممتزجة بالعداء للثورة والتعاطف مع النظام في دمشق وبين مرحّب بهم على خلفية العداء للنظام السوري وترقّب سقوطه قريبا، عدا عن مصلحة كثير من الصناعيين والتجّار على مختلف انتماءاتهم الطائفية في توظيف الأيدي العاملة السورية الرخيصة وذات الكفاية والإنتاجية العالية في آن معا. إلّا أنّه مع تمادي الزمان وتطاول سنيّ الحرب ويأس أعداء النظام السوري من احتمال سقوطه، ومع ظهور إشارات واضحة على قرار دولي بتوطين النازحين السوريين في لبنان تفاقمت المخاوف لدى جميع الطوائف في لبنان، ولم يبق على موقفه المرحّب بهم سوى المسلمين وتحديدا (أهل السنّة)، إذ بدأ يشعر أتباع الطوائف بخطر وجودي من تضاؤل نسبتهم العددية أمام المسلمين، ولم تكن بيئة حزب إيران وحركة أمل بمنأى عن هذا التفكير للأسف بعد أن ساقها إليه هذا الثنائي بسياسته الطائفية المقيتة منذ سنوات طوال، فكانت البلديات الواقعة في نطاق هيمنة هذا الثنائي في طليعة البلديات التي اتّخذت إجراءات قمعية في حقّ المقيمين السوريين فيها، إلى جانب البلديات الواقعة في مناطق النصارى. وقد أدّت إجراءات القمع والتشريد هذه إلى مزيد من تركّز أعداد النازحين السوريين في مناطق (أهل السنة) كطرابلس وبعض قرى منطقة البقاع، الأمر الذي عزّز حالة الفرز الطائفي المتزايد في لبنان مع تصاعد الدعوات في أوساط النصارى إلى اللامركزية الموسّعة أو الفيدرالية أو ما شاكلها من دعوات الفرز الطائفي.
وقد لوحظ مؤخّرا التحاق السلطة الرسمية - وعلى رأسها رئيس الحكومة ووزير داخليته (السُّنّيان) - بالتحريض على النازحين السوريين ودق ناقوس الخطر الديمغرافي الذي يمثّلونه، بعد أن كانت هذه السلطة تنأى بنفسها عن هذا الخطاب وتُظهر المنحى القانوني في التعامل مع النازحين.
هذه الأحداث وما يكتنفها من أجواء شحن عنصري طائفي ضدّ النازحين السوريين يلبس لبوس العصبية الوطنية كذبا وزورا، تقودنا إلى النظر في الموقف الدولي من قضية النزوح السوري إلى لبنان ومسألة عودتهم إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم داخل سوريا. فما الموقف الدولي من هذه القضيّة؟ وهل عودة هؤلاء النازحين إلى مناطقهم التي شُرّدوا منها واردة في خطط ما يسمّى المجتمع الدولي؟
لقد بات واضحا أنّ الدول الكبرى جميعا، من الولايات المتّحدة إلى دول أوروبا وروسيا والصين إضافة إلى إيران الضالعة في عملية التهجير المنهجية هذه منذ بدايات الحرب، لا تتطلّع لعودة ملايين النازحين داخل سوريا وخارجها إلى ديارهم. بل إنّ هذا التهجير جاء ضمن خطّة شيطانية بدأت منذ غزو العراق، لتغيير البنية الديمغرافية لمنطقة المشرق العربي ترتكز على تحويل الغالبية فيها إلى إحدى (الأقلّيات) بحيث تتحوّل المنطقة إلى جزر من (الأقلّيات) القومية والطائفية والمذهبية والعرقية، ولتُفصَّل بعد ذلك على قياس هذه الجزر الديمغرافية كيانات سياسية صغيرة يصبح كيان يهود كيانا طبيعيا بينها. ولقد فاجأ وزير الشؤون الاجتماعية في لبنان الماروني العوني هكتور حجّار أهل لبنان بكلام صريح نقله عن مسؤولين في الاتّحاد الأوروبي أثناء زيارته لبروكسل منذ حوالي شهر، وتحديدا عن مسؤول فرنسي خاطبه قائلا: "إنّ مصير السوريين في لبنان كمصير الفلسطينيين الذين أتوا إلى لبنان. وانسوا ما رسمنا من حدود نحن والإنجليز، إن سايكس-بيكو اليوم يعاد رسمه في المنطقة بطريقة جديدة مع تغيير ديمغرافي". بالطبع لم يشكّل هذا الكلام مفاجأة من حيث مضمونه، وإنّما من حيث التصريح به بهذا الشكل الفجّ من مسؤول أوروبي للمرّة الأولى، وإن لم يذكر اسمه. وهذا بالطبع يفاقم مخاوف الطوائف وزعمائها في لبنان، هؤلاء الذين تحكّمت بهم هواجس (الأقلّية) منذ عشرات السنين، بل منذ قرون.
أمّا نحن المسلمين أبناء الأمّة الممتدّة من شرق الأرض إلى غربها، فإنّه لا يجوز مطلقا أن ننساق مع هذه العنصريات تحت شعار الانتماء الوطني والولاء للوطن. فما الوطنية ولا الولاء للوطن إلّا عصبية جديدة مصنّعة اخترعها الكافر المستعمر عقب هدم دولة الخلافة وتقسيم أراضيها وفق اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو وأخواتهما ثمّ اختراع دويلات تكرّس هذا التقسيم دستوريا، واختراع عصبيات وسرديات تاريخية تُكرسّه في العقول والنفوس. نحن أمّة واحدة قال الله تعالى فيها: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾، وقال فيها النبيّ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَأَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى». فيجب أن يكون موقف أهل الديار المقيمين فيها تجاه إخوانهم النازحين إليهم كموقف الأنصار أهل المدينة المنوّرة من إخوانهم المهاجرين من مكّة الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حقّ، وقد قال الله تعالى في الفريقين: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
رأيك في الموضوع