تهاوت البورصات الأمريكية يوم الجمعة ٢/٨/٢٠٢٤ حيث فقدت نحو ٣٪ من قيمها السوقية، وتكبّد أثرياء العالم خسائر ضخمة، وصلت إلى نحو ١٣٤ مليار دولار في يوم واحد، عدا عن الخسائر الهائلة على امتداد العالم.
لقد توسّعت أسواق الأسهم والعملات والأوراق المالية والمعادن والسلع الأساسية التي يتداولها حملة الأسهم والمضاربون عبر البورصات بشكل هائل في العقود الأخيرة، حيث بات عشرات الملايين يتداولون عبر البورصات وهُم جالسون في بيوتهم أو في مكاتب عملهم أو في الحدائق العامّة أو في أسرّتهم قبل النوم، بل حتّى وهم يقضون حاجاتهم في الخلاء! الأمر الذي جعل تأثير الخضّات المالية أو الانهيارات يطال أعداداً هائلة من الأفراد بشكل مباشر، فضلاً عن تأثّر الشركات والمؤسّسات الإنتاجية واقتصادات الدول عموما، بحيث يخسر أعداد هائلة من البشر بين ليلة وضحاها مبالغ مالية ضخمة كانت قد جمعتها على مرّ سنين، وربما في صفقات سريعة. وفي الوقت نفسه تقفز مبالغ هائلة من جيوب ملايين الناس إلى فئة صغيرة من حيتان المال!
وعند كلّ صدمة من صدمات أسواق البورصة يسارع المحلّلون الماليون إلى تحرّي الأسباب المباشرة لهبوط أسعار البورصات، كأن يقولوا في شأن الهبوط الحالي: إنّ السبب هو الركود في الاقتصاد الأمريكي وتوقّع المزيد من الركود فيه، إضافة إلى الخشية من اندلاع مواجهة عسكرية إقليمية في منطقة الشرق الأوسط قد تتورّط فيها قوى دولية على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكية. ولكن قَلّما يعمد المعنيّون إلى إعادة النظر في الأنظمة والقوانين التي تحكم هذه الأنواع من العقود والمعاملات المالية، بل لنقل: التي ترخي لها العنان لتتحلّل من أيّ قيد من القيود التي تنظّم تداول ثروات الأرض والبشر بين الناس.
إنّ هذا النمط من تداول المال الذي يجري في أسواق الأوراق المالية والعملات والأسهم والمعادن الثمينة وبعض السلع الأساسية كالنفط إنّما هو من إنتاج النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يقوم على فكرة حرّية التملّك، والذي يكاد يشرع كلّ أشكال العقود التي يتوافق عليها المتعاقدون، على قاعدة الحرّية الاقتصادية. فلا يُمنع الربا ولا القمار ولا الشركات المساهمة التي هي أبعد ما تكون عن شروط الشراكة الحقيقية ولا بيع الديون ولا التداول الوهمي والافتراضي للسلع التي قد لا يكون للمُتداول منها وجود حقيقي في الواقع...
في البورصة تباع وتشترى أسهم شركات المساهمة وترتفع أسعارها وتنخفض، لا وفق ما تملك هذه الشركات فعلا من موجودات، وإنّما لمجرّد ارتفاع الثقة بها أو تراجع هذه الثقة، ولأسباب قلّما تكون مرتبطة فعلا بحجم رأس مال هذه الشركات أو أرباحها الفعلية، وتلعب الدعاية التي كثيرا ما تكون مضلّلة، وكذلك المضاربات وتلاعب المضاربين الكبار بحجم التداول، وكذا التلاعب بأعصاب حملة الأسهم، وكذا الأحداث والأخبار السياسية، دورا أساسياً في صعود أسعار الأسهم وهبوطها على نحو منفصل كلّيا عن الأرباح والخسائر الحقيقية لهذه الشركات وموجوداتها الفعلية. وهذا ما يدفع كثيرا من الناس إلى المغامرة في التداول في هذه الأسهم شراء واشتراء، لا طلباً للأرباح السنوية التي تنتجها، وإنّما في شكل من أشكال المقامرة (المضاربة)، حيث يراهن المتداولون على الاشتراء بسعر ثمّ البيع بسعر أعلى، ليكون الحاصل بين السعرين ربحا لهم، مع احتمال أن يحصل العكس، أي الخسارة، في كثير من الأحيان. وهذا ما جعل عمليات التداول هذه أشبه بكازينو قمار كوكبي تنتقل فيه الأموال من جيل إلى آخر على طاولة البوكر الكوكبية المسمّاة البورصة.
والمشكلة الأشدّ والأنكى أنّ هذا التداول لم يقتصر على أسهم الشركات المالية، وإنّما تعدّاها إلى أهمّ سلع البشرية وأخطرها، وعلى رأسها الذهب والفضّة والعملات التي أنشأها البشر لتكون ثمنا تُقدَّر بها السلع والخدمات، وكذلك إلى السلع الخطيرة كالنفط مثلا. حيث باتت هذه السلع مدار عقود بيع شكلية، تجري عليها عقود وتُتداول أثمانها بيعا وابتياعا دون أيّ تداول حقيقي لهذه السلع، حيث يلاحق المتداولون (المضاربون) أسعار هذه السلع في البورصات ليقوموا بعمليات بيع واشتراء متكرّرة بغاية ربح الفارق بين هذه العمليات دون أن يكون ثمّة تسليم وتسلّم مطلقا لهذه السلع التي هي محلّ مفترض لهذه العقود. وهذا ما يؤدّي إلى تضخّم أسعار تلك السلع بشكل لا يتوافق مع قيمتها الحقيقية، ثمّ في حالات تُعرَف بانفجار الفقاعات تنخفض أسعارها على نحو كبير ومفاجئ. فيتحوّل أناس فقراء إلى أثرياء، أو من أثرياء إلى مفلسين، جرّاء عمليات البيع والاشتراء الافتراضية هذه.
هذه المآسي المالية التي تشبه مآسي ألعاب القمار التقليدية، ولكنّها تختلف عنها في أنّها تزلزل اقتصادات شعوب ودول، بل تزلزل الاقتصاد العالمي برمّته، تُخرج الدورة الاقتصادية من حالها الطبيعية حيث يكون الاقتصاد تداولا إيجابيا للأموال والمنافع بين الناس وتكون فيه العملة سلعة مختلفة عن سائر السلع بتوافق البشر على منحها صفة الثمنية، إلى كونها وسيلة لنقل كمّيات ضخمة من الثروات من جيوب إلى أخرى دون أيّ تداول فعلي للأعيان والمنافع، أي إلى كازينو قمار عالمي تحفّه دائما مخاطر الإفلاس السريع لفئام من الناس وإثراء خيالي لقلّة منهم.
مَن كان يخطر في باله منذ أربعة عشر قرنا حين لم يكن العالم يعرف الشركات المساهمة ولا العملات الورقية الوثيقة المنفصلة قيمتها عن الذهب والفضّة ولا العملات الرقمية، وحين لم يكن ثمّة بورصات ووسائل اتّصال بسرعة البرق… من كان يخطر في باله أنّ أحكاما شرعية شرعها الإسلام في قرآنه وسنّة نبيّه ﷺ ستكون هي الضمانة إذا اعتُمدت وطُبّقت من هذه الكوارث التي ابتدعها النظام الرأسمالي المجرم؟!
عن أيّ أحكام نتكلم؟ هل ثمّة أحكام أخرى في هذا الشأن غير تحريم الربا؟ نعم بكلّ تأكيد.
فعلاوة على تحريم الربا الشهير الذي عرفته البشرية منذ قرون، والذي يسمّيه الفقه الإسلامي ربا الفضل، حرّم الإسلام ربا النسيئة، وهو تحريم تداول الذهب والفضة والعملات عموما دون تقابض حسّي تامّ وفوري في مجلس واحد، أي تسليم وتسلّم تامّين دون أيّ تأجيل ولو لجزء من المبيع. قال رسول الله ﷺ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ» رواه البخاري. فإذا التزم الاقتصاد هذا الحكم اختفى تداول العملات أو ما يسمى في الاصطلاح المعاصر بالمضاربة بالعملات عبر البورصة والإنترنت أو حتّى عبر الهاتف، وهذا التداول من أهمّ الأسباب المؤدّية إلى التلاعب الخطير بأسعارها. وكذلك سوف تختفي ما تسمّى بعقود بيع الديون التي تنتقل فيها الديون من دائن إلى آخر بفارق ربوي.
وسيسأل سائل على الفور: هذا في شأن العملات والذهب والفضّة، فماذا عن سائر السلع غير الربوية التي تُتداول في البورصات ومنصّات التداول كالنفط وغيره، وهي ليست من السلع التي أوجب فيها الإسلام التقابض؟ والجواب هو: صحيح أنّ الإسلام أجاز البيع المؤجّل لسائر السلع غير الربوية، ولكن على أن يكون هذا البيع لسلع موجودة حقّا، يحصل فيها التسليم والتسلّم ولو بعد حين، فلا يجوز لأحد أن يبيع سلعة ليست عنده، حتّى ولو كان قد اشتراها ما لم يتسلّمها فعلا. وهو الحكم الشرعي المعروف في كتب الفقه تحت عنوان "بيع ما ليس عنده". قال النبيّ ﷺ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» رواه أحمد. وعن زيد بن ثابت عن النبيّ ﷺ أنه «نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ» رواه أحمد وأبو داود، وصحّحه ابن حبّان والحاكم. وهذا الحكم حين يُلتزم في الاقتصاد فسوف تختفي مثلا عمليّات البيع الوهمية التي تباع فيها كمّيات خيالية لا وجود لها من النفط دون أن يكون ثمّة انتقال لبرميل واحد منه بين بائع ومشترٍ. وأيضا وبمعزل عن البورصة سوف تختفي عمليات بيع العقارات من شخص لثانٍ ثمّ لثالث ورابع قبل أن ينتهي بناء تلك العقارات وقبل أن يتسلّمها مشترٍ من بائع فعليا، وهي إحدى أكبر الكوارث التي كان لها أكبر الأثر في انهيارات مالية سابقة، وتعرف بأزمات الرهن العقاري.
هذه الصخور الهائلة الجاثمة على صدور اقتصاديات العالم اليوم كفيلةٌ أحاديث عن النبيّ ﷺ لم يكن أحد يلقي لها بالا من قبل بأن تُفتّتها وتريح البشرية من وطأتها، وصدق ربنا ﷻ إذ قال: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾.
هذا غيض من فيض من أحكام الشريعة التي تشكل ضمانة من شرور الأنظمة الوضعية التي اعتمدتها البشرية فشقيت بها. نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى استئناف الحياة الإسلامية وإقامة شريعته في أقرب وقت، لكي نريح العالم من شرور الرأسمالية وشياطينها وكوارثها، ومن سائر شرور الباطل الذي استحكم بالبشرية في غياب دولة الإسلام.
رأيك في الموضوع