ما الذي يجري في لبنان؟ من قرّر الحرب الدائرة فيه؟ ومن الذي يديرها؟ وهل قرّرت أمريكا حقّا القضاء على حزب إيران فيه؟
حين تعرّض حزب إيران للهجوم الصادم بتفجير آلاف من أجهزة البيجر وأجهزة الاتّصال في أيدي عناصره، واغتيال أمينه العامّ بعد ذلك بأيّام واغتيال معظم كبار قادته، ثارت التساؤلات: من الفاعل؟ أهو كيان يـهود؟ أم هو عمل بحجم أكبر من حجم الكيان؟ فإن كان هذا القرار أكبر من أن يتّخذه الكيان فلا يبقى سوى أنّ مَن اتّخذه هو أمريكا، سواء أكانت هي المنفّذة مباشرة أو كان الكيان هو المنفّذ. ثمّ جاءت عمليات التدمير الواسعة لقرى الجنوب اللبناني والقرى البقاعية وضاحية بيروت الجنوبية مع تأييد أمريكي واضح لتقطع الشكّ باليقين بأنّ قرارا أمريكيا ضخما وراء ما يجري، الغاية منه لا تخفى، وهي توجيه ضربة قاسية للحزب، بل ربّما قاصمة، تستهدف بنيته التنظيمية بقتل كبار قادته العسكريين، وتدمير أكثر ما يمكن تدميره من مخزونه العسكري وأسلحته الاستراتيجية. والضغط عليه وخنقه عبر تدميرٍ واسع لقرى طائفته الحاضنة ومدنها وسائر منشآتها. فالقرار الخطير هذا إذن بتدمير بنية الحزب وخنقه قرار أمريكي، فُوّض كيان يهود بتنفيذه، إذ إنّه صاحب المصلحة الكبرى في القضاء على القوة العسكرية التي لطالما شكلت خطرا على أمنه، كما شكلت له إهانة منذ التسعينات من القرن الماضي وحتى حرب المشاغلة التي بدأت في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى في تشرين الأول/أكتوبر 2023م، فضلا عن منافسة إيران له على النفوذ في منطقة المشرق العربي.
ماذا وراء قرار أمريكا هذا الذي فاجأ كثيرا من المعنيين والمراقبين، بعد سنوات طوال من اعتمادها للحزب لاعبا أساسيا في السياسة المحلية للبنان، وفي السياسة الإقليمية أيضا؟ لماذا قرّرت الآن ضربه هذه الضربة القاسية؟ وما الغاية منها؟ أهي القضاء عليه كلّيا؟ أم إنهاء دوره العسكري فقط؟ وهل قرّرت إنهاء هيمنته على معظم السلطة السياسية في لبنان؟ ولصالح مَن؟
الإجابات على هذه المسألة هي التي ترسم صورة المشهد السياسي وتوضح حقيقة ما يجري حاليا في لبنان. ولنبدأ بإعطاء لمحة عن تاريخ الحزب في لبنان وطبيعة الدور الذي أدّاه فيه، وصولا إلى الحالة الراهنة.
نشأ الحزب في أوائل الثمانينات من القرن الماضي عقب قيام دولة خميني في إيران بسنوات قليلة، وقد تزامنت نشأته مع اجتياح جيش يهود الواسع للبنان سنة ١٩٨٢، والذي بعد توغله في الأراضي اللبنانية وصولا إلى العاصمة بيروت وعمق الجبل والبقاع عاد أدراجه ليستقر في أراضي الجنوب التي تحوّلت إلى ميدان مقاومة عسكرية له، أسهمت فيها قوى مختلفة من المكونات السياسية والحزبية، قبل أن يقضي الحزب لاحقا على جميع هذه القوى ويستفرد وحده بصفة القوة المقاوِمة.
لقد كانت نشأة الحزب الأولى في تلك الأوضاع المتفجرة منفلتة من القبضة الأمريكية، حيث تولى قيادة الحزب أشخاص يغلب عليهم الإخلاص والرغبة بالجهاد، فكان من بواكير أعمالهم الضخمة التفجير الذي أدّى سنة ١٩٨٣ إلى قتل المئات من جنود القوّات الدولية التي نزلت في لبنان عقب اجتياح جيش كيان يهود، وفي مقدّمتها قوّات المارينز الأمريكية. وقد أعلن المنفّذون المسؤولية عن هذه التفجيرات آنذاك باسم (الجهاد الإسلامي). ثمّ ما لبث النظام السوري أن طوع الحزب، بالتواطؤ مع نظام إيران، فأقصوا زعيمه الأول الشيخ صبحي الطفيلي، وأبعدوا قياداته المخلصة ذات القرار الحر. ووضعت إيران قرار حزبها العسكري بعد ذلك وديعة لدى حافظ أسد الذي كانت قواته تسيطر على جزء كبير من لبنان، ليضبط إيقاع عملياته العسكرية وفق سياسته التي كانت بدورها تتكامل مع سياسة أمريكا في المنطقة. ولم يكن للحزب في تلك الحقبة أيّ دور في سياسة لبنان الداخلية وفي السلطة الرسمية التي أصبحت منذ عام ١٩٩٠ تحت وصاية تامّة من النظام السوري. فاقتصر نشاط الحزب على أعمال المقاومة، التي حققت نجاحا باهرا سنة ٢٠٠٠ بدفع الاحتلال إلى سحب قوّاته إلى ما وراء الحدود اللبنانية. وبالطبع لم يكن هذا الإنجاز خارج إطار السياسة الأمريكية، بل ضمنه، إذ لم يكن من سياسة أمريكا أن تبقى قوات الاحتلال في لبنان، فقرار مجلس الأمن الدولي رقم ٤٢٥ الصادر سنة ١٩٧٨ كان يقضي بانسحابه من الأراضي اللبنانية كلّها.
بعد سنوات عدّة جاءت الأحداث المفصلية في لبنان لتدفع الحزب إلى واجهة العمل السياسي. ففي عام ٢٠٠٥ وأثناء غرق أمريكا في مستنقع العراق نضجت في لبنان طبخة لإنهاء هيمنة نظام بشار على لبنان، أعدّها آنذاك رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري مع صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وولي أمره الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومع زعامات لبنانية على رأسها الدرزي وليد جنبلاط. وبالرغم من محاولة بشار وحليفه حزب إيران إفشال هذه الطبخة باغتيال الحريري اضطر الجيش السوري للانسحاب في نيسان من ذلك العام، إذ إن اغتيال الحريري أدى لنتيجة معاكسة، فقد استفز غالبية أهل لبنان، ولا سيّما (السنّة)، واحتشد عشرات الآلاف في مظاهرات ضخمة وسط بيروت في ١٤ آذار احتجاجا على عملية الاغتيال، الأمر الذي أحرج أمريكا فأوعزت إلى بشّار بسحب قواته من لبنان. وهذا ما دفع حزب إيران إلى واجهة السياسة اللبنانية. فأمريكا التي كانت غارقة آنذاك في مستنقع العراق، وفي خضم تكتل سائر الدول الكبرى ضدها آنذاك، وجدت لبنان يتفلت من يديها لصالح النفوذ الأوروبي، فدفعت به بالتوافق مع إيران للدخول في السلطة، لا لتسليمه إيّاها، وإنما لإحداث توازن مع القوى المتعاملة مع أوروبا لتمنع استئثارها بلبنان ريثما تتخذ قرارها النهائي بشأنه. فنشأ منذ ذلك الحين ما يعرف بتحالف ٨ آذار بزعامة حزب إيران مقابل تحالف ١٤ آذار بزعامة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري نجل رفيق الحريري. وقد بقي لبنان أسير هذا التوازن والنزاع بين التحالفين حتّى سنة ٢٠١٦، حين انفرط عقد تحالف ١٤ آذار وآلت السلطة الفعلية في لبنان إلى الحزب وحلفائه. ففي سنة ٢٠١٥، وبعد سنوات من تقديم إيران خدماتها الجليلة لأمريكا، وأهمّها الإسهام الكبير في ضرب الثورة الشعبية في سوريا وإسناد نظام أسد، وفي المرحلة التي قررت فيها أمريكا تخفيف أعبائها في المنطقة للتفرغ لمواجهة الصين في منطقة الشرق الأقصى، توصلت إدارة أوباما إلى توقيع الاتّفاق النووي مع إيران. فكان مما ترتب على هذا التفاهم أن وافق أوباما على تفويض السلطة في لبنان لحزب إيران. فأوعزت أمريكا لزعيم تيار المستقبل سعد الحريري صاحب أكبر كتلة في البرلمان آنذاك والمصنّف زعيما لـ(أهل السنّة) في لبنان بأن يوافق على انتخاب ميشال عون حليف حزب إيران رئيسا للبنان، بعد مضيّ ما يقرب من عامين ونصف على شغور هذا المنصب، فانتخب سنة ٢٠١٦. ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنّما زاد الحريري على ذلك تنازلا مخزيا للحزب بأن وافق على تعديل قانون الانتخابات، بحيث أسفرت الانتخابات عن نيل الحزب وحلفائه الغالبية المطلقة في مجلس النواب سنة ٢٠١٨ وتراجع حجم كتلة المستقبل تراجعا كبيرا. فصرّح بعض المسؤولين الإيرانيين آنذاك بأنّ إمبراطورية إيران وصلت إلى شاطئ المتوسط.
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع