والسؤال الأهمّ الآن: ما الذي جعل أمريكا، حتّى بعد سقوط ترامب سنة ٢٠٢٠ وعودة الحزب الديمقراطي إلى البيت الأبيض، تستمر في العمل على إنهاء دولة حزب إيران في لبنان بعد أن سلمته إياه تسليم اليد، بل وتقرر فوق ذلك القضاء على قوته العسكرية وتقويض بنيته السياسية بقتل جميع رؤوسه؟ الجواب يكمن في عوامل سياسية عدة، أهمها:
١- لقد توسعت هيمنة إيران في المنطقة بحيث اقتربت من أن تصبح إمبراطورية إقليمية، إذ امتد نفوذها إلى العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، الأمر الذي رفع درجة الغرور لدى صقورها الثوريين وجعلهم مستعدين للتمرد على كثير من قرارات أمريكا في المنطقة، وعلى رأسهم قاسم سليماني؛ فوجب على أمريكا تقليص نفوذ إيران وإعادته إلى حجمه الذي تقرره هي.
وقد يسأل سائل: أليست أمريكا هي من أوصلتها إلى هذا النفوذ الواسع في المنطقة؟ والجواب: بلى. ولكنّ هذا لم يكن ضمن تخطيط استراتيجي مسبق لإنشاء إمبراطورية واسعة لإيران في المنطقة، فليس من منطق الدول الاستعمارية أن تنشئ إمبراطوريات إقليمية تملك من القدرات ما يمكنها من منافستها ومعاندتها، أو على الأقل مناورتها، في مناطق نفوذها. ولكن حالات الفشل والاضطرار المتكررة في الإقليم هي التي اضطرت أمريكا إلى تفويض إيران بملفات عدة فيه. فهي فشلت في العراق بعد غزوه سنة ٢٠٠٣ وتكتلت دول العالم ضدها، وكان ذلك لصالح تزايد النفوذ الإيراني فيه. وفشلت في الحفاظ على لبنان تحت وصاية وكيلها بشار سنة ٢٠٠٥ فاستعانت بإيران في وجه القوى الموالية لأوروبا، وفشلت في القضاء على الثورة السورية بين سنتي ٢٠١١ و٢٠١٣ فاستعانت بإيران. فشكلت تلك السنوات فرصة لإيران لتوسيع نفوذها في المنطقة وتعزيز قوتها العسكرية فيها. وحين زالت تلك الظروف وجب على أمريكا تقليص نفوذها وقصقصة جوانحها التي بسطتها على المنطقة.
٢- إن قرار أمريكا بتقليص نفوذ إيران لم تكن الغاية منه العودة إلى النظام الإقليمي الذي كان سائدا قبل توسّع هذا النفوذ، أي إلى النظام الذي أسسته بريطانيا وفرنسا عقب الحرب العالمية الأولى على اتفاقية سايكس بيكو وأخواتها. وإنّما كانت غايته استكمال المشروع الذي بدأ في تنفيذه المحافظون الجدد سنة ٢٠٠٣ حين احتلوا العراق، وبدأوا بمخطط لتقسيمه فيدراليا إلى كانتونات طائفية أو مذهبية أو عرقية. وكانوا يخطّطون لاحتلال المزيد من البلاد في المنطقة لتنفيذ السيناريو نفسه فيها، وفشلوا آنذاك بسبب تكتل العالم كله ضدهم، وغرقوا في المستنقع العراقي، وتضعضعت سيطرتهم على لبنان سنة ٢٠٠٥، ثم جاءت ثورة المنطقة العربية مع نهاية سنة ٢٠١٠، والتي امتدت إلى سوريا في آذار ٢٠١١ لتكون شغلهم الشاغل. إلا أن ما آلت إليه سوريا من انقسام بين القوى المحلية والإقليمية والدولية والتهجير المتعمد للملايين من الغالبية المسلمة فيها، أغرى أمريكا بالعودة إلى مشروعها التقسيمي من جديد. وها هي منطقة المشرق العربي بعراقها وشامها باتت مهيأة في نظرها لإعادة صياغتها صياغة أمريكية على أنقاض صيغة سايكس بيكو، بتقسيم دولها على أسس عرقية وقومية وطائفية ومذهبية تحت عناوين من مثل الفيدرالية واللامركزية الإدارية.
٣- تراجعت أمريكا عن قرارها بالانسحاب الجزئي من المنطقة لتتفرغ للصين وتعزز نفوذها في الشرق الأقصى. فبعد محاولاتها إدخال الصين في حرب باردة معها ومع حلفائها، وعجزها عن جر روسيا إلى الانضمام إليها في مشروعها هذا، عمدت إلى تهدئة العلاقات مع الصين وتخفيف التوتر بينهما. ثمّ قررت تأديب روسيا، وذلك بتوريطها في الحرب الأوكرانية وضرب العلاقة بينها وبين أوروبا. وقد أدى ضرب هذه العلاقة إلى توريط أوروبا في أزمة انقطاع الغاز عنها، إذ كانت روسيا هي المصدر الرئيسي، بل شبه الوحيد، لإمداد أوروبا بالغاز. وكانت أمريكا معنيّة بأن تؤمّن مصدرا بديلا للغاز الروسي لأوروبا، لاستدامة استغنائها عن روسيا، وبالتالي لعزل روسيا وإضعافها اقتصاديا. فما مصدر الغاز البديل لأوروبا؟ إنّه شرق المتوسط. وهذا ما يقودنا إلى النقطة التالية.
٤- منذ سنوات بدأت منطقة شرق المتوسط، أي سواحل سوريا ولبنان وفلسطين، تكتسب معنى جديدا في نظر الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا. ففضلا عن كون هذه الدول مجاورة لكيان الاحتلال الأمر الذي يجعلها ذات خطورة استراتيجية، وفضلا عن كونها تحتل موقعا تجاريا مهما من حيث هي بوابة آسيا الغربية المطلة على المتوسّط وأوروبا؛ فإنّها دخلت في السنوات الأخيرة في عداد الدول المختزنة لأضخم كميات من الغاز. فالنظرة إليها أضحت شبيهة بالنظرة إلى دول الخليج النفطية، بل لقد برزت تلك الدول بسبب قربها من أوروبا، وهي القارة التي باتت في أمس الحاجة إلى مصدر بديل للغاز الروسي الذي انقطع منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية سنة 2022. وقد برز سعي أمريكا الحثيث منذ سنتين لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الغاصب لتأمين تدفق الغاز من حقل كاريش القريب من المياه الإقليمية اللبنانية. وبالفعل بدأ الغاز بالتدفق فور توقيع لبنان على هذا الاتفاق الخياني الذي تم بموافقة حزب إيران وبعد تفاوض. إلا أن هذا الحقل لا يلبي سوى الجزء القليل من حاجة السوق الأوروبية للغاز. وما تتطلع إليه أوروبا هو البدء بإنشاء مزيد من منصات استخراج الغاز في شرق المتوسط، بما فيها لبنان. وقد شرعت شركة توتال الفرنسية مع شركاء آخرين في التنقيب عن الغاز أمام الساحل الجنوبي للبنان بالتعاقد مع الحكومة التي يهيمن عليها حزب إيران، ولكنّ أمريكا قطعت تلك العملية بالضغط على شركة توتال لتتراجع، فزعمت أن التنقيب لم يسفر عن العثور على الغاز. فأمريكا لا تريد للبنان الذي يسيطر عليه حزب إيران أن ينال هذا المكسب، بل تريد الإمعان في إضعافه والضغط عليه حتى تتوصل إلى انتزاع سلطته وتعديل نظامه ليصبح تحت سيطرتها المباشرة، لتتولى هي بعد ذلك، عبر سلطة موالية لها، الإشراف على استخراج الغاز وتلزيم الشركات وتوزيع الحصص، الأمر الذي يجعلها المتحكمة بإمداد الغاز إلى أوروبا بعدما كان هذا امتيازا لروسيا طوال عشرات السنين.
هذه هي حقيقة ما يجري في المنطقة، فالحرب القائمة في غزة والضفة الغربية ولبنان، ما هي إلا تتمة لمخطط شيطاني بدأت محاولات تنفيذه منذ أوائل القرن الواحد والعشرين. وترى أمريكا، أنه آن أوان إتمامه، وإعلان الشرق الأوسط الجديد الذي قيل منذ غزو العراق إنه سيُرسم بخطوط الدم.
إنّ هذه الحروب المجرمة والخطط الشيطانية التي تنفذها أمريكا في بلادنا بالتواطؤ مع حلفائها الدوليين والإقليميين والمحليين ستستمر في سفك دمائنا وتدمير حواضرنا وتشريد الملايين منا وانتهاك أعراضنا ونهب ثرواتنا ما لم ننتفض انتفاضة واعية، لنتحرر من قبضتهم التي أحكموها على رقابنا. وما هذه القبضة إلا أنظمة الطغيان والعمالة التي حكمت بلادنا وحولتها إلى معتقلات ضخمة منذ عشرات السنين، لنقيم على أنقاضها دولة تنتمي إلينا ولإسلامنا، فتعلي سيادة الشرع، وتجسد السلطان الذي أوكله الشرع لنا، بأن ننصب إماماً نبايعه على السمع والطاعة، فيعود لنا كياننا وهويتنا وشخصيتنا وقرارنا وحصننا الذي نأوي إليه. قال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
* عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع