نشطت الدبلوماسية الأمريكية في السودان في ظل الحكومة الانتقالية الهزيلة، لتصطاد في الأجواء المتأزمة وتتقدم خطوة أو خطوات في سبيل إحكام نفوذها في السودان عبر العسكر، فعقب استقالة رئيس الوزراء حمدوك، ابتعثت أمريكا مبعوثها للقرن الأفريقي ساترفيلد، ومساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية مولي في، التي قدمت تقريراً عن زيارتها الثانية في كانون الثاني/يناير 2022م، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي في الأول من شباط/فبراير 2022م، عن الحال في السودان، ومما جاء في بيانها: "بعد 30 عاماً من ديكتاتورية إسلامية وعسكرية ونزاعات داخلية متكررة... ونظام سياسي ممزق يتبع تدخلا عسكريا موجها نحو التقسيم".
نقول لمولي إن الدكتاتورية التي حكمت السودان 30 عاماً كانت بدعم أمريكي مكشوف لكل ذي بصر وبصيرة، فأمريكا هي التي قامت بانقلاب 1989م عبر عميلها عمر البشير، وهي التي أوعزت له أن يتخذ من المعارضة آنذاك حاضنته السياسية ريثما يتمكن الجيش من الانقضاض عليها، وكانت الإدارة الأمريكية على دراية تامة بأن تلك المعارضة هي علمانية التوجه، وأن قادتها هم خريجو المدارس السياسية للغرب العلماني، ولا علاقة لهم بالإسلام، فأمريكا سمحت لتلك الحاضنة بالبقاء عشر سنوات داعمة للجيش ثم أُقصي زعيم الحاضنة السياسية حسن الترابي عام 1999م، فانفرد الجيش بالحكم بعد التمكين. ثم إن مولي تدعي في بيانها استنكار النزاعات الداخلية المتكررة في السودان، وتغض الطرف عن الدعم الأمريكي القوي للحركات المسلحة، فهي التي رعت الحركة الشعبية لتحرير السودان، ففصلت بها الجنوب، وأقامت دولة ذات صبغة نصرانية فيه، والآن هي تضغط على العملاء، وتمكنهم من قيادة السودان نحو تفتيته إلى دويلات منهوكة لا تقوى على البقاء إلا تحت سيطرتها.
وتماهيا مع استراتيجية الحرب على الإسلام في أدق تشريعاته قالت مولي: "رحبنا بالتقدم الذي أحرزته الحكومة الانتقالية لناحية إلغاء التشريعات القمعية...". فالحكومة الانتقالية شرعت بالفعل في إلغاء القوانين المتعلقة بالإسلام، بدءاً من القانون الجنائي، فبحسب موقع الجزيرة نت في 29/11/2019: "قال وزير العدل نصر الدين عبد الباري إن السودان ألغى قانون النظام العام الذي كان مستخدما إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير لفرض الآداب العامة...". وهو ما رحبت به كذلك منظمة العفو الدولية؛ إحدى أدوات الغرب في الحرب على الإسلام، فقد أوردت المنظمة في موقعها في اليوم نفسه ترحيبها، فقال سيف ماغانغو، نائب مدير برنامج شرق أفريقيا والقرن الأفريقي والبحيرات العظمى في المنظمة: "هذه خطوة إيجابية كبرى بالنسبة لحقوق المرأة في السودان. فقد تأخر إلغاء قوانين النظام العام كثيراً"، وأضاف: "يجب على الحكومة الانتقالية الآن ضمان الإلغاء التام لقوانين النظام العام القمعية. وهذا يشمل إلغاء المواد التي تفرض قانون لباس المرأة... وحل شرطة النظام العام، والمحاكم المخصصة، وإلغاء عقوبة الجلد... والمواد التي تنظم استهلاك الكحول وتداوله، والمواد التي تنظم ما يسمى "بالأخلاق"، بما في ذلك ممارسة الجنس بالتراضي...". فكانت هذه المنظمة أكثر وضوحاً في حربها على الإسلام ضمن الاستراتيجية الغربية في مسخ هوية المسلمين.
وتطالب مولي الحكومة الانتقالية: بـ"الشروع في إصلاحات اقتصادية خاصة بالسوق الحرة"، ما يعني استمرار اغتيال اقتصاد السودان بخصخصة أصول الدولة، وتسليم ثروات الأمة لقراصنة الاقتصاد الرأسمالي، فالغرب المستعمر عموماً يضغط ويضغط، ثم يراقب الأوضاع حتى تكتمل عملية مسح هوية أهل السودان، ومسخها إلى علمانية صارخة تضاهي باريس وواشنطن ولندن في مظهرها العلماني المخالف لأحكام الإسلام، بعد تركيع أهله وحكومته اقتصادياً عبر روشتات مهلكة يمليها صندوق النقد والبنك الدوليان وينفذها العملاء.
إن أمريكا تخطو نحو تجاوز المدنيين لتمكن القوى الأمنية من الإمساك بزمام الأمور في السودان، بيد أنها تخشى استمرار المدنيين في الاحتجاج والتظاهر ما قد يؤدي إلى إضعاف نفوذ الجيش، لذلك ذكرت مولي في بيانها هذه النقطة فقالت: "يطالب أصحاب المصلحة السودانيون بعلاقة جديدة بين العسكريين والمدنيين... وهي علاقة تعيد تحديد دور الجيش وتحجيمه من شريك في حكومة انتقالية إلى مشارك في العملية الانتقالية"، فماذا يعني "انتقال الجيش من شريك إلى مشارك" غير التلاعب بالألفاظ، والتأكيد على أهمية الدور المحلي والإقليمي للعسكر بالنسبة للإدارة الأمريكية؟! وقد أكدت مولي إشراك الجيش في الحكم، فقالت أمام مجلس الشيوخ: "قال لنا أصحاب المصلحة السودانيون عبر الطيف العسكري والسياسي إنهم يسعون إلى طريق للعودة إلى المرحلة الانتقالية... واكتساب دور تشاركي مناسب للأجهزة الأمنية"، فأمريكا يهمها إشراك الجيش في العملية السياسية إن لم يكن هو الفاعل.
إن أمريكا تعترف بالبرهان رئيساً للبلاد، وتعترف بالانقلاب الذي قام به ضد المدنيين، بل وتعتبره تصحيحاً كما يدعي البرهان نفسه، وقد انفردت مولي بالعسكر خلال زيارتيها، لتطمئن على سيطرتهم وولائهم لأمريكا، ففي الزيارة الأولى أورد موقع عربي بوست في 16/11/2021 "أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مولي في، التقت بقائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان... وأوضح بيان أصدره مجلس السيادة أن مولي أجرت مقابلة مع البرهان، بحضور القائم بالأعمال الأمريكي براين شوكان... واستمعت إلى الرؤية السياسية التي طرحها البرهان حول المسار الديمقراطي..."، وقد أورد الموقع نفسه عن مولي: "أن ما حدث في 25 تشرين الأول/أكتوبر كان نتيجة إخفاقات تخللت الفترة الماضية". وحفاظاً على سمعة الجيش تنصح مولي القيادة العسكرية بالكف عن قتل المتظاهرين حتى لا يُتخذ مطية لإقصاء العسكر عن المشهد السياسي، فبريطانيا التي تنازع أمريكا على النفوذ في السودان عبر المدنيين، تبدع بدهاء في استخدام مثل هذه العمليات، إن لم تقم هي بها، ضد خصومها العسكر، قالت مولي: "أوضحتُ للقادة العسكريين، نحن مستعدون لفرض تكاليف إضافية في حال استمرار نمط العنف الحالي"، وقالت: "يمكننا... الضغط على قادة قطاع الأمن لتغيير السلوك"، وقالت: "لقد أوضحت بالنيابة عن الولايات المتحدة ضرورة أن ينتهي نمط العنف البغيض المستمر ضد المتظاهرين السلميين" وربطت الدعم الأمريكي بوقف العنف فقالت: "لقد أوضحنا أن السبيل الوحيد لاستعادة المساعدات المالية الدولية يعتمد على إنهاء العنف...". فالذي يزعج أمريكا هو تباطؤ إيقاع البرهان في ضبط التظاهرات، بحيث تستمر كفة العسكر هي الراجحة.
وللعلم، فإن قيادة الجيش الأمريكي في أفريقيا ترتكز على محاور رئيسية، منها الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية لأمريكا، ووصولها إلى القارة وتأثيرها عليها، وينطبق ذلك على كل ما قد تحتاج إليه أمريكا في المستقبل، وهو ما أكده قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) الجنرال ستيفن ج تاونسند في الكلمة الافتتاحية في إيجاز خاص عبر الإنترنت نشرتها الخارجية الأمريكية في 3 شباط/فبراير 2022م، حيث قال بكل صفاقة: "إن القادة الأفارقة يعرفون من نحن، ويتفهمون طلبنا، وسيوافقون عليه على الأرجح، إذا اتصلنا وطلبنا بتحليق طائرة في الأجواء هناك بشكل طارئ في حال حصول أزمة أو حالة طارئة. هذا مثال على ما أعنيه".
ثم ختمت مولي كلمتها أمام مجلس الشيوخ بكذبة تاريخية كبيرة فقالت: "يظهر التاريخ السوداني بلا شك أن الدولة الديمقراطية هي الوحيدة القادرة على تحقيق سلام مستدام"، إن مولي تتعمد تجهيل أهل السودان، وتدعي ذاتية هذه الدولة، ألا تعلم مولي أن السودان، وعموم الدويلات الأفريقية قد تسلط عليها عملاء الغرب المستعمر، من العسكر والمدنيين وأشعلوا فيها الحروب، والنزاعات القبلية، والجهوية، والعرقية، فانتشر القتل، واللجوء، والنزوح، وأفقروا البلاد والعباد، وما عادت أفريقيا تجد طريقها للأمن والسلام والاستقرار والنهضة، في ظل هذه الأنظمة العلمانية، سواء أكانت عسكرية أم مدنية، إلا بتغيير حقيقي وجذري على أساس الإسلام في دولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة قريباً إن شاء الله.
رأيك في الموضوع