تحدثنا في الحلقة السابقة عن فشل الغرب بشكل عام في جعل كيان يهود جسما مقبولا في المحيط الإسلامي، ونكمل الموضوع عن أعمال اليهود تجاه القدس والمسجد الأقصى المبارك على وجه الخصوص ومحاولاتهم المستمرة لتهويدهما، وعن فشل هذه المحاولات. ولكن قبل ذلك نود التذكير بأكاذيب يهود ومن قبلهم النصارى؛ بخصوص بيت المقدس والمسجد الأقصى فنقول: لقد سبقت محاولات يهود في أكاذيبهم وادعاءاتهم تجاه المسجد الأقصى ومدينة القدس الأكاذيب التي اختلقها النصارى الصليبيون تجاه الأماكن المقدسة؛ لتوحيد صفوفهم ونقل المعارك إلى خارج أوروبا، وتوحيد الكنيسة الشرقية والغربية. وقد قاد هذه الأكاذيب كبار البابوات والمبشرين في أوروبا أمثال البابا جريجوري السابع، والبابا أوربان الثاني، وبطرس الناسك، وتبع النصارى في هذه الأكاذيب الحركة الصهيونية وليدة الصليبية، ولكن بشعارات أخرى وأكاذيب جديدة؛ من أجل أهداف سياسية رسمتها هذه الحركة مع كبار الساسة في أوروبا.
ومن الشعارات والأكاذيب التي لفقها اليهود وخاصة الحركة الصهيونية تجاه القدس والأماكن الدينية لتشجيع الهجرة إليها:
1- الحركة الصهيونية تبنت هذه التسمية من منطلق ديني يرتبط بجبل صهيون في القدس. وصهيون تسمية توراتية كما يدّعي يهود وهو الاسم المرادف التقليدي لأورشليم القدس، وأرض إسرائيل؛ ويمثل هذا تطلع اليهود إلى استرداد الوطن القومي التاريخي لأرض إسرائيل حسب أكاذيبهم، ويدعي أتباع هذه الحركة أن أي عيش لليهود خارج صهيون؛ هو عيش في المنفى كما ذكر ذلك موشيه هيس في كتابه "روما وأورشليم القدس".
2- في أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل السويسرية عام 1897، حدد اليهود الخطوات العملية لإقامة الكيان الصهيوني؛ استنادا إلى التوراة والتلمود، وبروتوكولات حكماء صهيون. وبلور الصهاينة هذه الأكاذيب في مؤتمرهم فيما يسمى بكتاب "الدولة اليهودية". وقد أبرز دعاة الصهيونية التلمودية دور القدس في هذه المرحلة كاسم ديني لجلب المهاجرين الجدد نحو فلسطين.
3- لقد عبّر قادة يهود وهم امتداد للحركة الصهيونية، عن ارتباط عودتهم للقدس بالنظرة العقائدية؛ فقد قال أول رئيس وزراء لكيانهم دافيد بن غوريون 1948: "لا قيمة لإسرائيل دون القدس.. ولا قيمة للقدس دون الهيكل". وقال موشيه ديان وزير الحرب لكيان يهود في حرب 1967، عندما وصل إلى حائط البراق: "لقد عدنا إلى أقدس مواقعنا، ولن نتركه مرة ثانية". أما رئيس الحاخاميين في جيش كيان يهود الجنرال غورين فصلى في باحة الأقصى بعد احتلاله سنة 67، وطالب بإقامة كنيس يهودي فيه، وقال رئيس وزراء كيان يهود ليفي أشكول سنة 67 عند احتلال القدس: "لقد ظلت القدس متشوقة إلى عودة اليهود إليها أكثر من ألفي عام قبل احتلال (إسرائيل) للقدس الشرقية في حرب 1967".
4- اتخذ الصهاينة اليهود اصطلاحا دينيا مكذوبا اسمه "أرض الميعاد"، أي الأرض الموعودة من الله لهم. والوعد المزعوم هو وعد التوراة؛ وذلك لتشجيع الهجرة اليهودية، وتشجيع التمسك بأرض فلسطين. ومن أكاذيبهم وافتراءاتهم في هذا الأمر: ما جاء في سفر التكوين حسب زعمهم ".. وقال الرب لأبرام: اترك بلدك - منزل قومك وأبوك - واذهب إلى الأرض التي سأدلّك عليها". وقد ذكرت أكاذيب أرض الميعاد على ألسنة ساسة يهود أيضا، ومن يسمون بالمتطرفين المتدينين منهم. يقول مئير كهانا: "أرضُ الميعاد انتزعها اليهود بالدم والدمع، وهي أرضٌ تقبل الزيادة ولا تقبل التجْزئة".
هذه بعض الأكاذيب التي اختلقها زعماء الحركة الصهيونية، وقادة كيان يهود والحاخامات لتشجيع الهجرة إلى بيت المقدس كمقدمة لإقامة كيانهم المسخ. وقد ترافق هذا الأمر مع حملة عالمية ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا لتشجيع اليهود. وترافق كذلك مع حملة ضغوطات على اليهود؛ تعاون وتآمر فيها قادة الحركة الصهيونية مع قادة الغرب في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكثير من دول أوروبا الشرقية في المنظومة الاشتراكية. تمثلت أحيانا بأعمال قتل وإرهاب نظمتها الحركة الصهيونية ضد اليهود؛ لإجبارهم على الهجرة. والمسلسل نفسه تشابه في الدول العربية المحيطة بفلسطين. ومن الشهادات على أفعال الحركة الصهيونية هذه ضد اليهود، يقول عوفر كسيف النائب السابق في الكنيست: "إن الحركة الصهيونية ارتكبت جرائم في دول عربية، لتحفيز اليهود على الهجرة منها". وقال أيضا: "تم الكشف في السنوات الأخيرة، عن شهادات حيّة حول تورط الحركة الصهيونية، في ملاحقة اليهود، كي يخرجوا من الدول العربية". ولم يقف الأمر عند حدود الدول العربية، بل إن الحركة الصهيونية تعاونت مع النازية الألمانية؛ من أجل تهجير اليهود. وفي ذلك يقول حاييم لنداو أحد قادة عصابة الهاغاناه، وعضو الكنيست في ندوة عقدت عام 1966 في تل أبيب: "إن الوكالة اليهودية كانت تعلم بالإبادة الجماعية، والحقيقة أن قادة الوكالة لم يصمتوا فقط، بل إنهم أسكتوا الآخرين الذين عملوا بذلك".
لقد تحققت أهداف الحركة الصهيونية الأولى في جلب اليهود من الشتات كما يدعون، وجاءت المرحلة الثانية في تحقيق أهدافها والمتمثلة في تفريغ البلاد من أهلها، والسيطرة على مدينة القدس وتهويدها، وقد تمثلت أعمال اليهود تجاه ذلك في أمور كثيرة، وتهويد القدس هو مقدمة لتهويد المسجد الأقصى المبارك وبناء الهيكل المزعوم كما يدعي حاخامات يهود وأعضاء الحركة الصهيونية.
إن أعمال يهود في تهويد مدينة القدس، وإخفاء معالمها الإسلامية قد بدأت بالفعل منذ سنة 48 وتفاقمت منذ احتلالها بالكامل سنة 67. وتمثل ذلك في خطوات عملية كثيرة ومتعددة ومتجددة؛ منها:
1- طمس الاسم القديم في النواحي الإدارية اليهودية، وفي وسائل الإعلام كافة، واستخدام الاسم المحرف (أورشليم)؛ وهو تحريف للاسم الكنعاني القديم أور سالم، أي مدينة السلام. والاسم الأصلي في الكتب والمؤلفات الإسلامية وفي تقسيم المناطق في كافة العصور الإسلامية هو القدس أو بيت المقدس. ولم يقف الأمر عند حد التسمية العامة، بل قاموا أيضا بطمس الكثير من الأسماء وتحريفها عن الاسم الأصلي، واستبدال أسماء يهودية بها؛ تاريخية أو دينية.
2- التهويد المكاني للأرض وللمسكن والعقارات داخل القدس وفي محيطها. فقد تم تهويد آلاف الدونمات من أرض القدس التي احتلت سنة 48، وتم ضمها لكيان يهود؛ وهي عبارة عن الأرض المحيطة بالمدينة خاصة من الجهة الغربية. وتمت أيضا السيطرة على كثير من العقارات والمدارس الإسلامية والنصرانية وتحويلها إلى مساكن ومعابد لليهود.
3- التهويد السكاني: حيث أعلنوا عن ضم المدينة فقرر الكنيست ضم القدس في 27/6/1967 أي بعد احتلالها ببضعة أيام. وبموجب الأمر رقم 2064، ألحق شرقي القدس بكيان يهود سياسيا وإداريا. ونص القرار هو: (القدس الموحدة - الغربية والشرقية - عاصمة إسرائيل)، وفي سنة 1980 أصدر الكنيست قرارا آخر يعلن فيه أن القدس هي العاصمة الموحدة لكيانهم! وبعد هذه القرارات مارس اليهود كل أشكال الضغط لتهجير المسلمين من المدينة وضواحيها. وصاروا يشجعون الهجرة اليهودية إلى داخلها، ويعطون الساكن فيها امتيازات خاصة.
4- المضايقات وعمليات الهدم المنظم والمستمر، وعدم السماح بالبنيان داخل المدينة للمسلمين. إضافة لذلك صاروا يمارسون ضغوطا من أجل تهجير أحياء بكاملها. أمّا داخل المدينة القديمة التاريخية فإن يهود يمنعون حتى عمليات الترميم للمباني ولا يسمحون إطلاقا بالبناء الجديد.
هذا ما يتعلق بموضوع التهويد لمدينة القدس بشكل عام؛ أما ما يتعلق بمحاولات تهويد المسجد الأقصى فسوف نتحدث عنه في الحلقة القادمة بإذن الله.
يتبع...
رأيك في الموضوع