وصل الدَّين العام في لبنان حوالي 80 مليار دولار ولا يوجد هناك أي تصور أو خطة واضحة حتى الآن لدى الحكومة الحالية لكبح هذا الدين، وكل ما يدور من كلام حالياً هو مجرد مزايدات بين مكونات الحكومة ليسجل كل فريق نقاطاً لصالحه، ورمي للتهم فيما بينهم على ما وصل حال البلد من مديونية عالية.
لن نتطرق هنا إلى مدى تفاهة عقلية أدعياء السياسة في لبنان ومدى سفاهة ممارساتهم السياسية بحق الرعية. أقل ما يقال عنهم إنهم عديمو المسؤولية ومكانهم ليس في الحكم والإدارة. مثلهم مثل باقي حكام المسلمين الذي خانوا أمتهم ووالوا الكافر المستعمر.
إن الملاحظ في مناقشات "موازنة سنة 2019" داخل الحكومة عدم التطرق للمشكلة الحقيقية للدين العام. مع أن من يقرأ تصاعد الدين بالأرقام منذ سنة 1992 حتى سنة 2019 يفهم تماما المشكلة فهي واضحة مثل الشمس في رابعة النهار. إن الأرقام تدل على أن أصل الدين العام يمثل ربع المديونية الحالية حيث كانت قيمته 20 مليار دولار ليصل اليوم كما أسلفنا إلى 80 مليار دولار وهذه الزيادة (65 مليار دولار) 75% منها نتيجة تراكم الزيادات الربوية (أضعافاً مضاعفة) أو ما يسمى "خدمة الدين" والـ25% الباقية تعود إلى ديون إضافية لسد العجز السنوي والإنفاق خارج الميزانية السنوية.
وحاليا نسبة الزيادة الربوية على سندات الخزينة التي تصدرها وزارة المالية وتعرضها للبيع وصلت إلى 10.5% بارتفاع 40% عما كانت عليه (موقع المدن: سندات الخزينة وفوائدها: دوامة خدمة الدين العام تتفاقم 26/12/2018). وهذا يرجع للحاجة الملحة للنقد لدفع مستحقات مالية.
لا يوجد أي فريق سياسي يطرح وقف عوائد الربا أو إلغاءها أو حتى تخفيضها مع أن خفضها بنسبة 1% يعني توفير 800 مليون دولار على الخزينة. والزيادات الربوية على الدين تشكل حوالي 35-40 بالمئة من الموازنة العامة وهو حجم كبير جداً. وهذه الأموال يتم سحبها من جيوب الناس وإعطاؤها للدائنين وهم المصارف المحلية التي تملك 43% من أصولها، حسب دراسة قام بها الدكتور جاد شعبان أستاذ مشارك في الاقتصاد بالجامعة الأمريكية في بيروت، وأفراد من عائلات السياسيين أو عائلات مقربة منهم! فالمستفيد الأول من دفع أهل البلد للزيادات الربوية هم السياسيون أنفسهم والخاسر الأول هم عامة الناس. بيد أن الربا بالأصل محرم وهو حرب مع الله ورسوله. يقول الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾والربا فوق ربا أيضا محرم، قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ففوق حرمتها يكتوي أهل لبنان بها وبظلم المنظومة كلها ومع ذلك لا يطالب أي حزب أو جماعة بإلغائها أو على الأقل خفضها! وبمجرد الهمس بالموضوع أو بحثه في الاجتماعات الخاصة تأتي العصا الدولية وتهدد بسحب الإيداعات بالعملة الأجنبية فتخفت أي مطالبة بذلك. ففي بداية سنة 2019 كشف تقرير لموقع "بلومبرغ" الأمريكي أن لبنان يدرس إعادة جدولة للديون، وعلى أثر هذا التقرير ذكرت وكالة الأنباء رويترز خبر هبوط السندات الدولارية اللبنانية بما يصل إلى 3.7 سنت (موقع المدن: بعد الحديث عن "جدولة الديون".. سندات لبنان الدولارية تهبط 12/01/2019) وعلى أثر ذلك صرح وزير المالية أن إعادة هيكلة الدين غير مطروحة على الإطلاق (موقع رويترز العربية 13/01/2019). وهذا يكشف عن مشكلتين أخريين؛
الأولى، وهي الارتهان للغرب المستعمر وطاعته في كافة الأمور. وهذا الأمر غني عن التعريف. أما الثانية فتكمن في النظام النقدي والاعتماد على العملة الورقية خارج نظام القاعدة الذهبية. بل السياسة الاقتصادية المتبعة في لبنان هي الاعتماد على قاعدة الصرف بالدولار وتثبيت العملة المحلية بالدولار حيث يتدخل المصرف المركزي عبر ضخ احتياطاته بالعملات الصعبة لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.
فالنظام النقدي خارج نظام القاعدة الذهبية يعني بشكل تلقائي السماح للمصرف المركزي بإصدار العملة دون تغطية وهذا يؤدي لفقدان العملة قيمتها مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع وخسارة الناس قيمة أموالها. وفي لبنان هناك عدم ثقة باقتصاد البلد وعملته، يتم التعامل بالدولار الأمريكي في المعاملات المحلية، وعليه بتنا نشهد سياسات مصرفية يقررها المصرف المركزي تحد من الاعتماد على الدولار في التداول المحلي وذلك لتخفيف الضغط عن الليرة اللبنانية إذ وصل سعر صرف الدولار في الأسواق إلى 1530 ليرة صعودا من 1516 ليرة في ظل تدخل البنك المركزي لثبيت سعر الصرف بين 1515 و1520 عبر تحويل الإيداعات لديه بالعملة الأجنبية إلى الليرة لبنانية. وهذا سبّب انكماشاً لقيمة الموجودات الخارجيّة (احتياط العملات الأجنبية) لمصرف لبنان بنسبة 10.33% (4.48 مليارات دولار)، مقارنةً بالمستوى الذي كانت عليه في نهاية شباط 2018، والبالغ حينها 43.36 مليار دولار. (موقع لبنان 24: بالأرقام: بين العملات والذهب.. هذا ما حصل بمصرف لبنان خلال عام! 2/3/2019).
وهكذا تتراكم المشاكل في لبنان بسبب كيانه الطائفي الهزيل وتبعية حكامه للأجندة الغربية عدا عن فسادهم في الحكم والإدارة وفوق كل ذلك تطبيق النظام الرأسمالي في السياسة الاقتصادية إن كان من ناحية الديون والربا المترتب عليها أو من ناحية إصدار العملة خارج نظام القاعدة الذهبية وتضخمها. ولن تحل هذه المشاكل بوجود هكذا منظومة. فالحل لن يكون إلا عن طريق استعادة الأمة الإسلامية سلطانها عبر إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ويتم ضم لبنان ليصبح جزءا منها فيتم إرساء منظومة اقتصادية متينة لا ربا فيها ولا تضخم لعملتها كونها قائمة على أساس الذهب والفضة. منظومة لا يخضع الحاكم فيها لأجندة المستعمر ولا لأجندة أدواته كصندوق النقد والبنك الدوليين. وإن ذلك قريب إن شاء الله. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾.
بقلم: الأستاذ عبد اللطيف داعوق
نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع