منذ زيارة رئيس وزراء كيان يهود لأمريكا في آخر شهر تموز المنصرم تصاعدت عمليات الكيان ضد ما يسمى بمحور المقاومة وأتباع إيران. ففي ٣٠ تموز اغتيل فؤاد شكر وهو أكبر مستشار عسكري في حزب إيران ثم اغتيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في ٣١ تموز في العاصمة الإيرانية طهران.
ومع أن استهداف هنية رحمه الله كان بهجوم مباشر على إيران، لم ترد إيران حينها على ذلك الاستهداف، بل اكتفت بتصريحات التنديد والوعيد، ما أغرى يهود على التصعيد من ضرباتهم. فكان التصعيد خلال آب مقتصراً على ضربات جوية على مواقع عدة داخل لبنان وغارات وهمية فوق العاصمة بيروت، وخلال الشهر ذاته بدأ يهود في الحشد العسكري على جبهتهم الشمالية مع لبنان.
فكان هجوم أجهزة الاستدعاء "البيجر" في ١٧ أيلول حيث انفجرت تلك الأجهزة الموزعة على آلاف العناصر من حزب إيران في شتى أنحاء البلاد. ولحق ذلك تفجير في أجهزة اللاسلكي في ١٨ أيلول. ثم اغتيال قائد قوات الرضوان (قوات حزب إيران الخاصة) في ٢٠ أيلول. كل ذلك كان تمهيدا لتوسيع عمليات يهود على لبنان والتي بدأت في ٢٣ أيلول.
وبالرغم من تصعيد يهود بشكل كبير ظل رد حزب إيران خجولا ومقتصرا على استهداف مناطق خالية وبصواريخ قديمة. ومع مقتل زعيم الحزب ومعظم الصف الأول فيه، فهو ما زال إلى يومنا هذا يقصر هجومه على إرسال الرسائل عبر الصواريخ دون أذى ليهود بشكل كبير. كل هذا يطرح علامات استفهام كثيرة حول مصير الحزب ودوره السياسي في لبنان والمنطقة والصراع مع كيان يهود.
إن أقصى ما يمكن أن تحققه التنظيمات المسلحة هو أذى العدو. وتاريخيا لم تستطع هذه التنظيمات تحرير أرض أو إزالة خطر. وحين انتهاء المعركة أو الحرب ينتهي دورها لتجلس مكانها الدول المشغلة والداعمة لها وذلك لقطف الثمار السياسية على طاولة المفاوضات. بمعنى آخر، تلك التنظيمات ما هي إلا أدوات علمت أم لم تعلم، لا تملك قرارها السياسي ولا تملك حرية تحديد سقف أهدافها العسكرية. فلو اعتبرنا أن قرار حزب إيران التصعيد العسكري وتوسيع الضربات ضد يهود واستعمال الصواريخ الموجهة وشل المطارات العسكرية وكان القرار الإيراني معاكساً له لغلّب القرار الإيراني وكان هو القرار النافذ.
إنه مع عودة رجل أمريكا محمد جواد ظريف إلى الحكم كنائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية ومعه الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان بات واضحا وجود انعطاف في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية حيث باتت تتخذ منحى أكثر ميولا للتوجه الأمريكي ما يقرب إيران أكثر فأكثر من الخروج من الدوران في فلك أمريكا إلى التبعية الكاملة لها.
فلقد صرح بزشكيان من طهران خلال مؤتمر صحفي منتصف شهر أيلول وقال: "نحن لا نعادي الولايات المتحدة. عليهم أن يوقفوا عداءهم تجاهنا من خلال إظهار حسن نيتهم عمليا"، مضيفا "نحن إخوة للأمريكيين أيضا" ثم عاد وصرح بعد أسبوع في نيويورك في مقابلة مع شبكة سي إن إن الأمريكية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مقللا من قدرات حزب إيران بقوله: "يجب ألا نسمح بأن يصبح لبنان غزة أخرى على يدي (إسرائيل)" مضيفاً: "لا يمكن لحزب الله أن يواجه بمفرده دولة تدافع عنها وتدعمها وتزوِّدها بالإمدادات دول غربية ودول أوروبية والولايات المتحدة". وفي سلسلة أسئلة وجهتها كريستيان أمانبور في مقابلة مع محمد جواد ظريف عن حقوق المرأة داخل إيران أجاب ظريف باللغة الإنجليزية وطمأن أمانبور على تفعيل دور المرأة في الحكم وأن هناك أربع نساء داخل الحكومة لأول مرة في تاريخ إيران!
إن المواقف التي اتخذتها إيران، كـ"الصبر الاستراتيجي" وإلزام حزبها بقواعد الاشتباك، منذ اغتيال إسماعيل هنية بل منذ اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني شجعت أعداءها على التمادي في عدوانهم. ومواقفها الأخيرة انعكست سلبا على موقف حزبها في لبنان. فظهر أن إيران تركت حزبها ليلاقي مصيره أمام آلة يهود العسكرية مع إصرارها على تكبيله في منعه من الرد بشكل فعال على هجمات يهود بالرغم من اغتيال معظم الشخصيات العسكرية في الصف الأول والثاني. وهذا ما شجع يهود على المضي قدما نحو الهجوم البري والبحري على لبنان ظنا منهم أن حزب إيران شلت معظم قدراته العسكرية. إلا أن الواقع - حتى الآن - لا ينطق بذلك. بل الهجوم البري لاقى مقاومة كبيرة منعت يهود من التقدم إلا قليلا. وأيضاً موقف إيران دفع نتنياهو ليصرح بإرادته في تغيير النظام الإيراني ما شكل دافعا لإيران لإطلاق صواريخها بشكل غير مؤذ وكرسالة للكيان.
بقي موضوع الداخل اللبناني حيث استغلت الأطراف المعارضة للثنائي الشيعي الضربات التي لحقت بحزب إيران محاولةً فرض موقفها السياسي في ملف انتخاب رئيس الدولة فكان الرد من تحركات رئيس مجلس النواب نبيه بري ومعه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في مجاراتهم في طرحهم، وأيضاً خرج تصريح نائب أمين عام حزب إيران نعيم قاسم ليؤكد على وحدة الثنائي الشيعي في الموقف السياسي الداخلي. إن القوى المعارضة في لبنان لا تملك القدرة على مواجهة الثنائي الشيعي المدعوم أمريكيا وتبقى تحركاتها مجرد إزعاج دون تأثير يذكر. ومما يذكر أيضا أن مواقف أتباع السعودية لم تهاجم حزب إيران في الوقت الذي يحتاج فيه كيان يهود لانقسام داخلي بين السنة والشيعة في لبنان.
إن حزب إيران ارتكب أعمالاً شنيعة ضد المسلمين عبر دعمه للمجرم بشار أسد رغم علمهم أن نظامه هو نظام كافر وأنه هو وأبوه مجرمان. فدعمه هذا أخرجه من كونه حزباً تتطلع إليه الأمة لتحقيق مصالحها إلى حزب مذهبي يعادي طموح الأمة للانعتاق من ربقة الاستعمار. ولم يكتف حزب إيران بذلك بل أيضا قمع الحراك المعادي للمنظومة اللبنانية الفاسدة والذي سمي بحراك ١٧ تشرين، ومن بعد ذلك منع حزب إيران استكمال تحقيقات انفجار مرفأ بيروت. كذلك وافق الحزب على ترسيم الحدود البحرية مع كيان يهود وبالتالي تسليم حقل كامل للغاز في البحر المتوسط. كل تلك الأعمال أبعدت الحزب ليس فقط عن الأمة الإسلامية ككل بل أيضا عن أبناء بلده.
إن مستقبل حزب إيران تحدده إيران تبعا لسياستها المعتمدة. والأغلب أنها لن تتخلى عن حزبها لكنها ستغير من وجهته ليكون حزبا سياسيا داخل لبنان لا يشكل تهديدا لكيان يهود. فهناك محاولتان سابقتان لتغيير وظيفة الحزب من وصفه حزبا مسلحا ليصبح حزبا سياسيا منزوع السلاح. منها سنة ٢٠٠٩ حين تم طرح تقسيمة طائفية جديدة للبنان عبر ما يسمى بالمثالثة السياسية كبديل عن المناصفة بين المسلمين والنصارى في لبنان. إلا أنه تم العدول عنها بسبب الثورات التي اندلعت بوجه حكام المنطقة ودخول حزب إيران إلى سوريا. والآن، بعد أحداث ٧ تشرين الأول/أكتوبر 2023 التي زلزلت كيان يهود وكشفت مدى ضعفه، وأظهرت أن انهياره يتطلب فقط إرادة صادقة وقراراً سياسياً حاسماً، بات هناك إجماع دولي وإقليمي على ضرورة نزع سلاح تلك الجماعات وتغيير توجهاتها السياسية.
رأيك في الموضوع