فجر خطاب قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" بشأن الأوضاع السياسية والعسكرية في السودان، جدلا في المشهد السوداني، وغضبا مصرياً لاتهامها بقصف قواته ودعم الجيش السوداني بالمقاتلات، في حين يعتقد محللون أن الخطاب عكس إحباطه من التراجع العسكري والمواقف الخارجية المناهضة له.
فقد اتهم حميدتي مصر بالمشاركة في الضربات الجوية على قواته في منطقة جبل موية بولاية سنار في جنوب شرق البلاد. واعتبر أن الاتفاق الإطاري الذي وقعه المكون العسكري في المرحلة الانتقالية مع تحالف قوى الحرية والتغيير هو السبب في اندلاع الحرب الدائرة في البلاد. وقد علق حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي على منصة إكس "اعتراف حميدتي أن سبب الحرب الاتفاق الإطاري، ما قاله حذرنا منه ونصحناه هو والحرية والتغيير". وعلى صعيد القوى السياسية، وصف خالد عمر يوسف عضو المكتب القيادي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية خطاب قائد الدعم السريع بأنه تصعيد خطير في لغته ضد عدد من القوى الخارجية في منحى يعقد الأزمة ولا ينتج لها حلولا.
إن الناظر في تعليقات السياسيين والمفكرين على خطاب حميدتي يجد أنها لا تعدو أن تكون ردود أفعال وليست قراءة لرجل ينفذ سياسة أمريكا في السودان.
فالرجل كان محقا وهو كذوب عندما قال إن سبب الحرب الاتفاق الإطاري؛ فقد نص الاتفاق في الجزء الثاني منه على "تسليم السلطة الانتقالية إلى سلطة مدنية كاملة... وللدولة رئيس بمهام شرفية... ثم مستوى تنفيذي يرأسه رئيس وزراء مدني..."، وينص أيضاً على أن "ينأى الجيش عن السياسة وعن ممارسة الأنشطة الاقتصادية والتجارية الاستثمارية، وأن تدمج قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة في الجيش وفقا للترتيبات التي يتم الاتفاق عليها لاحقا في مفوضية الدمج والتسريح ضمن خطة إصلاح أمني وعسكري..."، وقد كان الاتفاق يقتضي التوقيع النهائي عليه في 6/4/2023 وتشكيل الحكومة المدنية في 11/4/2023 وهنا سارت الأمور على النحو التالي:
في اليوم نفسه أي 6/4/2023 الذي كان يفترض فيه التوقيع على الدستور الانتقالي وقبل 5 أيام من تشكيل الحكومة الانتقالية في 11/4/2023 أجرت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مولي في اتصالا هاتفيا مع حميدتي والمتحدث باسم العملية السياسية خالد عمر يوسف. (وهاتفت مولي كلاً من نائب رئيس مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع "حميدتي" والمتحدث باسم العملية السياسية خالد عمر، وذلك بعد أيام من اتصالها برئيس مجلس السيادة وقائد الجيش البرهان... سودان تربيون، 6/4/2023). وفي ليلة الاقتتال الجمعة 14/4/2023 اجتمع البرهان وحميدتي في بيت أحد الضباط الكبار في حضور مبعوثين أجانب. (العربي بوست، 19/4/2023).
إن هذه الحرب التي تديرها أمريكا القصد منها إبعاد عملاء بريطانيا والأوروبيين لساحة ترسمها أمريكا لعملائها العسكر. فكانت هذه الحرب العبثية التي قتل فيها الآلاف وأهلكت الحرث والنسل وجرائم الاغتصاب... وكاد لأمريكا أن تحقق هدفها بعد إلصاق تهمة الخيانة للحرية والتغيير بمعاونة حميدتي، فقد صرح مساعد القائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس السيادة السوداني ياسر العطا لـ"الشروق" المصرية: "الطرف المدني الشريك في الوثيقة الدستورية تمرد على الدولة ودعم وساند وقاتل مع غزاة أجانب". بعد هذه التهم للمدنيين عملاء بريطانيا لم يبق من خطة أمريكا من هذه الحرب إلا القضاء على الجانب العسكري لبريطانيا في دارفور، ولذلك انتقلت الحرب بشكل حقيقي وقوي في دارفور، وقد استولى حميدتي على كل ولايات دارفور ما عدا الفاشر آخر معقل لبريطانيا. وتدور رحى الحرب فيها بضراوة ما جعل جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة وزير المالية يصرح في تغريدة على إكس "اجتهد الغرب ومنظماته في فتح معبر أدري للأغراض الإنسانية ليتحول إلى معبر رئيسي لدعم المليشيا بالأسلحة الفتاكة. يجب إغلاق هذا المعبر".
إن ظهور حميدتي في خطابه بمظهر المنكسر أو المنهزم لا يعني أنه خسر الحرب لأن الحرب ما زالت تدور في غرب السودان بضراوة، كر وفر في كل المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، فظهوره بهذا الانكسار وبراءته من الذين ارتكبوا جرائم القتل والاغتصاب والنهب، هذه التبرئة تدل على تهيئة البلاد للانتقال لمرحلة أخرى بعد السيطرة الكاملة على دارفور التي لم يبق منها سوى الفاشر بعد انسحابات الجيش في تلك المناطق.
فقد توجهت قوات الدعم السريع إلى دارفور على مرأى من الجيش لتصبح هي المعارضة الرئيسية في البلاد. وربما تصبح أمريكا في السودان ذات جناحين: جناح سياسي مكون من هذه القوات لا يخلو من التسلح ليقود المعارضة، وجناح عسكري من الجيش، ليقوم الجناحان بخدمة مصالح أمريكا. أما لماذا لا تخلو معارضة قوات الدعم السريع من التسلح فذلك على الأرجح لأمرين: الأول لاحتواء المعارضة الأوروبية التي تتشكل من عملاء بريطانيا إذ إن القضاء عليها سياسياً ليس سهلاً، بل يلزم عسكرياً. والثاني أن تكون هذه القوات في دارفور معارضة سياسية ذات قوة مسلحة حتى إذا اقتضت مصلحة أمريكا انفصالاً آخر بعد جنوب السودان فتفعله في دارفور.
فحميدتي ينفذ سياسة أمريكا في البلاد هو وقيادات الجيش، تلك السياسة التي تتعلق بإخراج نفوذ بريطانيا من السودان أو إضعافه، فقد صرح مساعد القائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس السيادة السوداني ياسر العطا للشروق المصرية: "بعد الحرب سوف نجلس لتقييم اتفاق سلام جوبا وتقويمه في اتجاه السلام والاتفاق على فترة انتقالية".
إن اتفاق جوبا أعطى الحركات المسلحة التي تتبع لبريطانيا ٢٥٪ من الحكم. وتجاه هذه الأحداث فإن بريطانيا وأدواتها لن يقفوا مكتوفي الأيدي بل يعملون بكل جد أن لا تسقط الفاشر، وإذا سقطت لا يألون جهدا بإيجاد مشاكسات هنا وهناك حتى توجد لها موطئ قدم.
وهكذا فالسودان مسرح للصراع الدولي وأدواته، لا يهمهم القتل والتشريد والاغتصاب والفقر والمرض، لأنهم مستعمرون وأدواتهم كلاب صيد. ولا يمكن الانفكاك من سلاسل الاستعمار إلا بسلطان يعبر عن مشاعر الأمة تعبيراً حقيقياً وهذا لا يكون إلا بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تؤسس الحياة على أساس الإسلام العظيم.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع