ترفع في بلاد المسلمين رايات، وتتزين بها فيما يسمى بأعياد (الاستقلال)، فهل تساءل المسلمون عن مغزى هذه الأعلام المرفوعة في بلادهم؟ وما هو مصدر ألوانها؟ ومن الذي صممها؟ خاصة وأنها كلها قد اشتقت من علم واحد، وهو علم العرب الأول، الذي رفعوه في بداية القرن العشرين، للدلالة على "الثورة العربية الكبرى" التي قادها الشريف حسين ضد دولة الخلافة؟
مع أن حقيقة من صمم العلم الأول تظل ملتبسة؛ بين روايات تعود لشخصيات عربية استخدمته كشعار للاستقلال عن الخلافة العثمانية، أو لشخصيات بريطانية أرادت أن يرفعه العرب في مواجهتها. حيث تقول المصادر في الأرشيف البريطاني في لندن إن الذي صمم العلم هو الدبلوماسي البريطاني السير مارك سايكس، في محاولة لخلق شعور بـ"العربية" من أجل إثارة التمرد ضد الخلافة العثمانية.
وعلى الرغم من أن الثورة العربية كانت محدودة للغاية في نطاقها والذي نسقها هم البريطانيون وليس العرب أنفسهم، فقد أثر العلم على الأعلام الوطنية للعديد من الدول العربية الناشئة بعد الحرب العالمية الأولى. فالأعلام وألوانها المستوحاة من الثورة العربية، تشمل أعلام مصر، والأردن، والعراق، والكويت، والسودان، وسوريا، والإمارات، واليمن، وفلسطين، وأرض الصومال، والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وليبيا وغيرها.
إن علم أية دولة مرتبط بثقافتها ومفاهيمها وعقيدتها؛ فعلم المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية يعود لعام 1801م (عام اتحادهما)، مكون من صليب أحمر للقديس جورج (شفيع إنجلترا) محاط بإطار أبيض، الذي يشكل صليب القديس باتريك (شفيع إيرلندا الشمالية). بالإضافة إلى صليب قطري بشكل إشارة X الذي يكون صليب القديس أندرو (شفيع اسكتلندا). وكذلك أمريكا، فعلمها يعبر عن نظامها، وثقافتها الجنسية، بوضع ألوان الطيف في علمها، وهكذا الدول المبدئية، يعبر علمها عن نظام الحياة فيها، أي عقيدتها.
إن الدولة الإسلامية، قد فرض رسول الله ﷺ لها لواء وراية؛ فاللواء أبيض، ومكتوب عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بخط أسود، وهو يُعقد لأمير الجيش أو قائد الجيش. ويكون علامةً على محله، ويدور مع هذا المحل حيث دار. ودليل عقد اللواء لأمير الجيش «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ» رواه ابن ماجه من طريق جابر. وعن أنس عند النسائي «أَنَّهُ ﷺ حِينَ أَمَّرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى الْجَيْشِ لِيَغْزُوَ الرُّومَ عَقَدَ لِوَاءَهُ بِيَدِهِ».
والراية سوداء، ومكتوب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بخط أبيض، وهي تكون مع قواد فرق الجيش (الكتائب، السرايا، وحدات الجيش الأخرى)، والدليل أن الرسول ﷺ، وقد كان قائد الجيش في خيبر، قال: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ... فأعطاها علياً رضي الله عنه». متفق عليه. فعلي كرم الله وجهه، يُعتبر حينها قائدَ فرقةٍ أو كتيبة في الجيش. وكذلك في حديث الحارث بن حسان البكري قال: «قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبِلَالٌ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ، وَسَأَلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّايَاتُ؟ فَقَالُوا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ» أخرجه أحمد، فمعنى «وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ» أي أنّ راياتٍ كثيرةً كانت مع رؤساء كتائب الجيش ووحداته، في حين إن أميره كان واحداً وهو عمرو بن العاص ومعه اللواء. وبذلك يكون اللواء علماً على أمير الجيش لا غير، وتكون الرايات أعلاماً مع الجند.
واللواء يُعقد لأمير الجيش، وهو عَلَمٌ على مقرِّه، أي يُلازم مقرَّ أمير الجيش. أما في المعركة، فإن قائد المعركة، سواء أكان أمير الجيش أم قائداً غيره يعيّنه أمير الجيش، فإنه يُعطى الراية يحملها أثناء القتال في الميدان، ولذلك تسمى (أمَّ الحرب) لأنها تُحمل مع قائد المعركة في الميدان. قال رسول الله ﷺ ينعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس، قبل أن يأتي الجند بالخبر: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ».
وكذلك فإنه في حالة الحرب القائمة مع العدو، إذا كان قائدُ الجيش في الميدان هو الخليفةَ نفسه، فإن اللواء يجوز أن يكون مرفوعاً في المعركة، وليس الراية فحسب. فقد ورد في سيرة ابن هشام عند الحديث عن غزوة بدر الكبرى أن اللواء والراية كانتا موجودتين في المعركة... أما في السِّلم، أو بعد انتهاء المعركة، فإن الرايات تكون منتشرةً في الجيش ترفعها فِرَقُ الجيش وكتائبه وسراياه ووحداته.
اللواء يعقد في طرف الرمح ويُلوى عليه، ويُعطى لقائد الجيش حسب عدد الجيوش، فيعقد لقائد الجيش الأول والثاني والثالث... أو لقائد جيش الشام والعراق وفلسطين... أو لقائد جيش الخرطوم والقاهرة وبيروت... وهكذا حسب تسمية الجيوش. والأصل أن يُلوى على طرف الرمح ولا يُنشر إلا لحاجة، فمثلاً فوق دار الخـلافة ينشر لأهمية الدار، ولأن الخليفة هو قائد الجيش في الإسلام، وينشر اللواء كذلك فوق مقرات قادة الجيوش في حالة السِلم لترى الأمةُ عظمةَ ألوية جيوشها. لكن هذه الحاجة إذا تعارضت مع الناحية الأمنية كأن يُخشى أن يتعرف العدو على مقرات قادة الجند، فإن اللواء يرجع إلى الأصل وهو أن لا يُنشر ويبقى ملوياً.
وأما الراية فهي تترك لتصفقها الريح كالأعلام في الوقت الحالي؛ ولذلك توضع على دوائر الدولة ومؤسساتها ودوائرها الأمنية، وتُرفع هي فقط على تلك الدوائر، باستثناء دار الخـلافة فيرفع عليها اللواء على اعتبار أنَّ الخليفةَ هو قائدُ الجيش، وتُرفع مع اللواء الراية (إدارةً) لأن دار الخـلافة هي رأس مؤسسات الدولة. كما أن المؤسساتِ الخاصةَ والناسَ العاديين يحملون الراية ويرفعونها على مؤسساتهم وبيوتهم، وبخاصةٍ في مناسبات الأعياد والنصر ونحوها.
أيها المسلمون: هذا هو علمكم، هذه هي رايتكم؛ راية العُقاب، راية رسول الله ﷺ ارفعوها في تحركاتكم ولا تَخشوْا في رفعها لومةَ لائم، ولا تتأثروا بالمزاعم التي ينشرها المضلّلون بينكم. إن هذه الراية ترمز إلى الخلافة، ترمز إلى دينكم، إلى عقيدتكم ولا يجوز أن ترفعوا علما غيرها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع