بالرغم من صيته السيئ عبر العقود التي مضت، وبالرغم من فشله في إنقاذ أي دولة في السابق، أبت الدولة اللبنانية إلا الذهاب إلى صندوق النقد الدولي لاستدانة مبلغ ١٥ مليار دولار منه. ومقابل ذلك على الدولة اللبنانية تطبيق القوانين التي ينص عليها صندوق النقد، ومنها وقف دعم الدولة للمواد الأولية وزيادة الضرائب على الناس وتعويم الليرة اللبنانية أو وقف سياسة تثبيت سعر الصرف، مما يؤدي إلى خسارة الليرة من قيمتها بنسبة تفوق الـ٥٧٪ حسب الورقة المالية التي صادقت عليها الحكومة. كل هذه السياسات ستؤدي أو تفاقم الفقر، وهي تحميل مسؤولية فشل الدولة على عامة الناس.
فالليرة في الأسواق هبط سعرها حوالي ٦٥٪ إذ صعد الدولار الأمريكي مقابل الليرة ليصل نحو ٤٤٠٠ ليرة للدولار الواحد ثم عاد وهبط إلى ٣٥٥٠ بعد أن كان الدولار قبل ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ يوازي ١٥٠٨ ليرة. وهذا الصعود الحاد أدى إلى انفجار الشارع مع اتخاذ الحكومة قرارات جائرة بحق أهل البلد في إطار إدارة أزمة انتشار فيروس كورونا.
فالسلطة اللبنانية أمرت الناس بالجلوس في بيوتهم دون مقابل، فمنعتهم من السعي لطلب الرزق ولم تقدم أي خطة تحفيزية ولم تقم بأية إعفاءات ضريبية، بل جل ما قامت به هو وعود فارغة لا تسد جوعا ولا تروي عطشا.
فهبوط الليرة بهذا الشكل أدى إلى خسارة الناس لقيمة أجرتهم الشهرية ومعاشاتهم التقاعدية...
فكان الانفجار في الشارع، فنزل الناس في معظم المناطق دون تمييز طائفي، إلا أنه وبسبب وقع الأزمة بشكل أقوى على أهل طرابلس وبسبب ردة الفعل العنيفة التي انتهجتها الدولة ضد الناس حصل صدام عنيف في الشارع مع الجيش اللبناني دفع المتظاهرين لحرق بعض المصارف. هذا وكان رئيس الحكومة حسان دياب يحاول توجيه الاتهام لرياض سلامة حاكم مصرف لبنان تبعا للتوجه العام لدى حزب إيران في محاولة من الأخير لتنفيس الاحتقان لدى بيئته الحاضنة في توجيه الاتهامات لحاكم مصرف لبنان.
إلا أنه بسبب تصاعد العنف انقلبت جميع المواقف لتخالف ما سبقها. فمن جهة أعلن تيار رئيس الجمهورية على لسان رئيسه جبران باسيل أن المسؤولية لا يتحملها حاكم مصرف لبنان. أما رئيس مجلس النواب فأعلن صراحة رفض أي مساءلة لحاكم مصرف لبنان. وحتى حزب إيران انقلب على مواقفه عن لسان نائب زعيمه إذ صرح أن موضوع حاكم مصرف لبنان يجب بحثه فقط داخل الحكومة وليس في الشارع.
ولم تقف التصريحات هنا، بل تحرك الحاكم الفعلي للبنان وتم الكشف عن كلام السفيرة الأمريكية لرئيس الحكومة. ومما تم تسريبه أن السفيرة "أعربت عن استياء حكومتها من أحداث العنف التي شهدتها مدينة طرابلس مؤخرا، ولجوء السلطة إلى الزج بالجيش اللبناني في مواجهة المحتجين على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد". وأنه: "لا يجوز وضع الجيش اللبناني في مواجهة مباشرة مع المحتجين الذين يطالبون السلطة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين أوضاعهم المعيشية ووضع حد للتدهور الحاصل، لأنه ليس من مهمات الجيش الدفاع عن النظام أو السلطة ووضعه في المواجهة مع الشعب بشكل صدامي لتغطية تأخر الحكومة وقصورها في القيام بالمهمات المنوطة بها بهذا الخصوص، باعتبار أن مهمة الجيش هي الدفاع عن البلد برمته وكان من المستحسن أن تتولى قوى الأمن الداخلي مهمة الحفاظ على الأمن وملاحقة المخلين بدعم من الجيش اللبناني". وقالت: "إن الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم الجيش اللبناني ضمن برنامج مساعدات على مدى طويل ليتمكن من القيام بالمهمات المطلوبة منه في الدفاع عن سيادة واستقلال لبنان ويحافظ على وحدته وسلامته لا يمكن أن يكون في مواجهة مباشرة مع المحتجين".
إن كلام السفيرة الأمريكية لا يمكن فهمه إلا في إطار واحد، وهو أن أمريكا بدايةً هي الحاكم الفعلي للبنان، فمن بعد تصريحات السفيرة الأمريكية سارعت الحكومة في إنجاز ما سمته بالخطة المالية وقدمت الحكومة طلباً لصندوق النقد الدولي، وتوقف الهجوم على حاكم مصرف لبنان، وتوقف استعمال العنف ضد المتظاهرين وحصلت هناك خطوات استيعابية لهم. ويتضح من ذلك أن الحكومة استعجلت في استعمال العنف وأن أمريكا ما زالت تترك الجيش كملاذ أخير في حال فشل الوسط السياسي بشكل تام، ولا تريد حرق ورقة الجيش قبل ذلك.
إن الأزمة التي وقع فيها لبنان هي من صنع سلطاته المتعاقبة بمن فيهم السلطة الحالية التي أهملت الصناعة والزراعة وأدمنت الاتكال على التحويلات المالية من الخارج. وهي أزمة تتعلق ببنية لبنان الطائفية والتي منها تنبثق المحاصصة السياسية والاقتصادية بين الطوائف وتنبثق عنها حماية الفساد المستشري في الدوائر الحكومية. وهي أزمة تتعلق بالنظام الرأسمالي والسوق الحر الذي يسير فيه الاقتصاد اللبناني والذي أوصل المديونية إلى مستويات عالية بنسب ربوية تصل إلى نسبة ١٥٪. وهي أزمة تتعلق بالارتهان للخارج سياسيا وفكريا؛ فالقرار السياسي في لبنان بيد أمريكا فهي من تمول الجيش وتصرف عليه وعلى عتاده وتدريبه، ورجال السلطة في لبنان هم أزلام أمريكا وهي من أتت بمعظمهم منذ اتفاق الطائف فضربُ الاقتصاد الإنتاجي في تسعينات القرن الماضي وتحويله إلى اقتصاد استهلاكي يتكل على السياحة كان على عين أمريكا وبأمر منها والذهاب اليوم إلى صندوق النقد الدولي يحصل بتوجيه منها.
وهكذا يتضح أن لبنان قد وقع في شباك صندوق النقد الدولي وهو يتوجه نحو المزيد من الغرق في أتون الظلام الحالك، وأنه ولو هناك استطاعة لتخفيف الأزمة عبر معالجات محلية تتسم بالسيادة والرعاية الحقيقية لكن كما أنه من المستبعد أن يقوم السارق بقطع يديه فكذلك من المستبعد أن تصلح السلطة الحالية فساد عقود من سوء الإدارة وهي التي تشارك تبعية من سبقها من السلطات الفاسدة.
إن دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة هي الحل الوحيد العملي لأزمة لبنان، ولا يوجد حل آخر غير ذلك. إن لبنان بات في أشد الحاجة لدولة مبدئية تنقذه من الانهيار السحيق الذي هو فيه؛ دولة تنظر إلى الناس على أنهم رعايا يجب حل مشاكلهم بالكيفية التي أمر بها خالقهم. إن أهل لبنان كفروا بدولتهم وبقياداتهم، والوسط السياسي في لبنان أصبح شبه ميت، ولذلك فإن ضم لبنان لدولة الخلافة أصبح سهلاً وميسوراً. نسأل الله أن يكون ذلك قريبا.
بقلم: الأستاذ عبد اللطيف داعوق
نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع