ما من شك أنّ شهر رمضان شهر بركة وخير، وهو شهر فضله الله على باقي الشهور، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وهو سوق خصب وفير للطاعة والقربات، ولطالما بقي ميدانا فسيحا لعظيم الأمور، ومنذ فجر الإسلام والشهر يشهد على إنجازات الأمة واجتهاد الصحابة والسلف الصالح فيه ما لا يجتهدون في غيره، فكانت الفتوحات والجهاد في سبيل الله، وكانت الطاعات وختم القرآن وقيام الليل.
ولا أريد الاستطراد في ذكر القربات والطاعات التي يزخر بها الشهر الفضيل من صيام وقيام وقراءة للقرآن وحلق ذكر وصلة للأرحام وتسبيح وذكر وصدقات واعتمار وطلب علم، ولكني أريد أن أذكر بأنّ هذا الشهر يوم كان للمسلمين دولة وإمام كان شهر الفتوحات والجهاد في سبيل الله رغم المشقة والتعب، فكانت فيه معارك فاصلة وإنجازات تنوء بها الجبال، ولم يكن شهراً للقربات والرقائق فحسب.
ففي السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى، وفي العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة كان فتح مكة المكرمة، وفي رمضان سنة خمسة عشر للهجرة كانت معركة القادسية، وفي رمضان سنة 92 للهجرة كان فتح بلاد الأندلس، وفي رمضان سنة 685 للهجرة كانت معركة عين جالوت، وفي رمضان سنة 584 للهجرة كانت موقعة حطين، وغيرها من المعارك العظيمة التي كتب الله فيها النصر والفتوحات لجيوش المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فهم السلف الصالح لمعنى العبودية والطاعات في شهر رمضان، وأنّه شهر جد واجتهاد لكل أحكام الإسلام وليس فقط للقربات والنوافل والعبادات الفردية.
وكذا الأمر يجب أن يكون في أذهان المسلمين هذه الأيام، أن ينصرف المسلمون إلى كل عظيم وطاعة ليؤدوها إلى الله في هذه الأيام الفضيلة ليكون لهم بذلك أجر مضاعف، وإنّ من أعظم الأمور وأولاها العمل من أجل تحكيم شرع الله وإقامة دولة الإسلام التي تعلن الجهاد وتستنفر الجيوش لحمل الدعوة وتحرير البلاد ونشر الإسلام في ربوع العالم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَدْلٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً». رواه الطبراني في الأوسط.
فتحكيم شرع الله بإقامة دولة إسلامية هو من أعظم الواجبات، وعليه مدار الإسلام، وبالعمل من أجل تحقيقه يكون المرء قد عمل لكل الإسلام، ولذلك قيل عن هذا الفرض بأنه الفرض الحافظ للفروض، وهو منها بمنزلة التاج الذي يعلو الجسد والرأس كله.
فالعمل من أجل تحكيم شرع الله في الأرض، هو عمل من أجل إقامة الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وباقي فروض الإسلام، وهو عمل من أجل إغاثة الملهوفين ونصرة المستضعفين ونجدة المنكوبين، وهو عمل لسد عوز الفقراء والمساكين والمحتاجين، وهو عمل لإحياء ما أماته الحكام من الإسلام وأحكامه.
وفي ظل اجتياح فيروس كورونا للعالم وتكشّف الرأسمالية وانفضاح أمرها وسوء رعايتها للناس فقد صار العمل لأجل إعادة حكم الله وشرعه إلى سدة الحكم ومناحي الحياة أمراً لازماً وضرورة ملحّة، لتخرج البشرية والعباد من ظلام الرأسمالية وجورها إلى نور الإسلام وعدله، لذا كان على المرء أن يسارع إلى اغتنام فرصة مضاعفة الأجر في رمضان ليلتحق بركب العاملين لإقامة شرع الله وتحكيم دينه، وعلى حملة الدعوة أن يضاعفوا من جهودهم وأعمالهم المفضية إن شاء الله إلى استئناف الحياة الإسلامية في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
فهذا شهر رمضان الفضيل، شهر الإسلام كله، شهر الطاعات كلها، وعلى المثابرين والصائمين والقائمين أن لا يغفلوا عما يرضي الله ويستوجب رحمته من الأعمال العظيمة المؤدية إلى إحياء الإسلام كله، وها قد شهد المسلمون جميعا كيف أنّ الحكام المجرمين بعد أن أماتوا الإسلام وأقصوه عن سدة الحكم ورعاية الشؤون، ورضي منهم المتقاعسون أنهم تركوا للناس عباداتهم الفردية وصلواتهم في المساجد وقرباتهم لله، كيف تجرأ الحكام على الإسلام وشعائره العظيمة فأغلقوا المساجد ومنعوا الصلوات والجمع بحجج واهية كاذبة، حتى فكروا من قبل بأن يمنعوا الناس من صيامهم حينما لجؤوا إلى المفتين والمشايخ للنظر في حكم الصيام في ظل كورونا، إذ ما كان أحب على قلوب الحكام المجرمين من أن يترك المسلمون صيامهم وقيامهم ومساجدهم، فيحلوا للحكام بعدها ما تمنوه منذ عقود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَتُنْتَقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتُقِضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً: الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ».
وكفى بحملة الدعوة وبالعاملين لإعادة الحكم بما أنزل الله وسياسة الناس بالإسلام العظيم، شرفاً أنّ عملهم هو لإحياء عمل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فعن أَبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ»، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ، فَإنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» متفقٌ عليه.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع