حسب الدستور اللبناني - من بعد تعديله سنة ١٩٨٩ في ما يعرف باتفاق الطائف - تم تثبيت موقع رئاسة الجمهورية ليكون الرئيس من الطائفة المارونية. وتنتهي ولاية الرئيس الحالي في ٣١ أكتوبر/تشرين الأول القادم 2023. وقد بدأت المعركة على رئاسة الجمهورية قبل الانتخابات النيابية هذه السنة.
إنه وبعد أحداث سنة ٢٠١٩ والتظاهرات التي خرجت في شوارع لبنان، تكبد التيار الوطني الحر الذي أسسه رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون والذي يترأسه صهره جبران باسيل، خسائر فادحة داخل الطائفة المارونية. وكما هو معلوم فإن ميشال عون وصهره ومعهما حزب إيران اللبناني وحركة أمل جميعهم يكنون الولاء لأمريكا، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. فهم ينفذون سياستها العامة في ما يخص طبيعة العلاقة مع يهود ومع عملاء أمريكا في المنطقة كنظام أسد والنظام العراقي وغيرهما، والعلاقة مع صندوق النقد والبنك الدوليين وسياسة لبنان الداخلية وخصوصا تلك التي تتعلق بالنفط والغاز.
وعلى حساب تراجع شعبية التيار الوطني الحر داخل الطائفة المارونية بسبب حلفه مع حزب إيران، تقدم حزب القوات اللبنانية الذي حقق في الانتخابات الأخيرة أغلبية المقاعد المارونية. ولولا القانون الانتخابي وانسحاب سعد الحريري من المشهد السياسي وجهود حزب إيران لمني التيار الوطني الحر بهزيمة نكراء. وفي هذا التراجع للتيار والتقدم للقوات أصبح الفراغ الرئاسي أمراً يغلب عليه الظن. فلقد تعقد المشهد أكثر مما سبق وبات الإتيان بشخصية تدين بالولاء لأمريكا أمراً صعباً. فالقوات اللبنانية تاريخيا تمردت على القرار الأمريكي في تسليم البلد للنظام السوري عقب اتفاق الطائف ما أدى لاحقا في سنة ١٩٩٤ لسجن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع ولم يخرج إلا بعد مقتل رفيق الحريري وخروج النظام السوري من لبنان.
صحيح أن سمير جعجع لا يمكن أن يفرض نفسه أو غيره رئيسا للجمهورية لكنه يستطيع أن ينفي الشرعية عن أي رئيس لا يأتي برضاه. في إطلالة له في إحدى المناسبات يقول زعيم حزب إيران "إن موضوع الرئاسة يجب أن لا يخضع لفيتو من أي طرف"، وهاجم في معرض حديثه القوات اللبنانية. ومؤخرا تم توقيف النائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية وتم تفتيشه من الأمن العام بعد قدومه من زيارة للأراضي المحتلة. علما أن تنقله كان أمراً روتينياً ومعلوماً لدى السلطات الأمنية. واعتبر التوقيف كمحاولة للضغط على البطريركية المارونية في ما يتعلق بالموقف من انتخاب رئيس للجمهورية.
منذ حراك ٢٠١٩ حاولت أمريكا إيجاد قوة مارونية موالية لها تمثل بديلا عن تيار عون؛ فاجتمعت السفيرة الأمريكية مع قيادات وأحزاب مارونية عدة مناوئة لجبران باسيل وعمه. واستطاعت أمريكا من خلالهم سحب بعض الأصوات والمقاعد من القوات اللبنانية لكن حسم الرئاسة أمر آخر.
إن أمريكا تملك لبنان طولا وعرضا، فمن يشغلون مواقع الرئاسات الثلاث يدينون بالولاء لها وكذلك قيادات المواقع الأمنية والاقتصادية. وهي لا تسمح بأي اختراق من أي طرف مناوئ لها. وفي مثل حالة رئاسة الجمهورية فإن أمريكا على الأغلب لن تضغط الآن على الأطراف في تنصيب بديل لعون بل ستترك الأمر في حالة الفراغ إلى أن يخضع الجميع للاسم الذي تريده أو تتم صفقة ما. فالمشهد العام تم رسمه وتحديد خطوطه الحمر؛ والخط الأحمر الأول عند أمريكا هو أن لا يأتي سمير جعجع أو زوجته إلى موقع الرئاسة، وهذا الخط الأحمر عبر عنه زعيم حزب إيران صراحة. فأمريكا تعتمد على حزب إيران في تركيز نفوذها في لبنان وأي رئيس جمهورية مناوئ لحزب إيران يعني سحب الغطاء الماروني عنه وبالتالي يفقد الحزب شرعيته داخل لبنان.
إن الانقسام الداخلي في لبنان تعود جذوره مع بداية الكيان، بل وصل الأمر إلى أن تصبح لفظة "لبننة" مصطلحاً سياسياً يعني التقسيم السياسي المبني على الطوائف والأعراق. والفراغ الرئاسي هذا سيكون الثالث على التوالي؛ فالأول بقي حوالي سنة بين ٢٠٠٧ - ٢٠٠٨ بعد انتهاء ولاية إميل لحود، والثاني حوالي سنتين ٢٠١٤ - ٢٠١٦ بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان. وممكن أن تفرض أمريكا تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي قبل انتهاء ولاية ميشال عون لتحصر الفراغ في الرئاسة فقط.
إن لبنان وغيره من بلدان المنطقة أبدوا الفشل الذريع في تحقيق مصالح أهل البلاد، بل باتت الدول عبئاً يجب التخلص منه عبر فك التبعية عن المستعمر. إن التبعية للمستعمر ظاهرة ومعلومة عند كل من له قلة علم في الشأن العام. فالجميع يعلم حرمة الزراعة والصناعة المستقلة عن الغرب، والجميع يعلم سياسة تدفع نحو هجرة العقول والأدمغة، والجميع يعلم حرمة الاستقلال في السياسة الخارجية. وفي لبنان خضع أدعياء السياسة لقرارات أمريكا في ترسيم الحدود مع يهود وبات سقف المطالبة لدى من يدعون المقاومة هو توقيع يهود للاتفاقية التي تعطيهم حقل كاريش كاملا، علما أن لبنان وحسب الترسيم الحدودي الدولي له ثلاثة أرباع ذلك الحقل لكن رئيس الجمهورية رفض أن يوقع قرارا يثبت هذا الحق للبنان! وهكذا فإن الفراغ الرئاسي لا يؤثر على المسار السياسي الذي تسلكه الدولة اللبنانية كون القرار لم يكن يوما بيد رئيس الجمهورية ولا بيد أي رئيس آخر بل هو بيد أمريكا وفقط أمريكا، وما النواب والوزراء والرؤساء سوى دمى يحركها من بيده الخيوط.
نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع