بعد الحرب التي اندلعت في 27 أيلول/سبتمبر 2020 واستغرقت 44 يوما أودت بحياة 6500 شخصا من الطرفين: أذربيجان والقوات الأرمنية المحتلة لإقليم ناغورني كاراباخ، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن أرمينيا وأذربيجان توصّلتا برعاية روسيا إلى اتّفاق على "وقف إطلاق نار شامل وإنهاء كلّ العمليات العسكرية في منطقة النزاع في ناغورني كاراباخ" ودخل حيّز التنفيذ اعتباراً من منتصف ليل الاثنين 10 تشرين الثاني/نوفمبر2020 بتوقيت موسكو.
وقال يومها رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان في بيان له "لقد وقّعت إعلاناً مع الرئيسين الروسي والأذربيجاني لإنهاء الحرب في كاراباخ"، واصفاً هذه الخطوة بأنّها "مؤلمة بشكل لا يوصف، لي شخصياً كما لشعبنا".
وناغورني كاراباخ هي منطقة جبلية تقع داخل أذربيجان، وعند انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 أعلنت غالبية أرمينية مدعومة من يريفان انفصالها عن أذربيجان ما أدى إلى اندلاع الحرب الأولى بين الطرفين، أسفرت عن مقتل 30 ألف شخص وتهجير مئات آلاف الأذريين بعد أن احتلت القوات الأرمنية الإقليم وأراضي في جواره بلغت كلها حوالي 20% من الأراضي الأذرية.
وبالعودة إلى اتفاق وقف إطلاق النار في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 فإن بنوده جعلت روسيا ضامنة للتحقق من حفظ السلام وذلك بنشر قوات روسية قوامها 1960 عسكريا، مزودين بما يلزم من آليات خفيفة لمراقبة تطبيق الاتفاق لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد، كما تضمن بنودا أخرى فرضت على أرمينيا سحب قواتها من الأراضي الأذرية، على أن تضمن روسيا شريطاً برياً يصل ما بين الإقليم وأرمينيا بحيث يتمكن السكان الأرمن من التواصل البري مع أرمينيا وكذلك لضمان حركة التجارة ونقل السلع. كما تعهدت أرمينيا بضمان حرية الحركة والانتقال للأفراد والسلع من أذربيجان إلى إقليم نخجوان الذي يقع على الحدود مع تركيا وإيران (انظر الخريطة).
وهكذا جاء اتفاق تشرين الثاني/نوفمبر 2020 ليكون بمثابة هدنة مؤقتة تهدف إلى وقف الأعمال العسكرية وشراء الوقت ريثما يتم العمل على التوصل إلى اتفاق نهائي يتضمن حلا نهائيا للمسائل العالقة بين الطرفين: أذربيجان المتمسكة بسيادتها على إقليم ناغورني كاراباخ وأرمينيا التي تهدف إلى الحصول على ضمانات واسعة للأرمن في الإقليم وصولا إلى حكم ذاتي موسع، مع ضمان حرية الحركة بين الإقليم وأرمينيا، بينما تريد أذربيجان انتزاع اعتراف نهائي من أرمينيا بسيادتها على الإقليم، وكذلك ضمان حرية الحركة بين أذربيجان وإقليم نخجوان.
ومع أن روسيا ترتبط بمعاهدة دفاع مع أرمينيا، إلا أن القانون الدولي يعترف بسيادة أذربيجان على إقليم كاراباخ، وعليه فحين اندلعت حرب أيلول 2020 فقد دارت المعارك على الأراضي الأذرية، ولم يكن هناك من مسوغ للتدخل الروسي. ثم إن حرب 2020 فتحت بابا واسعا لتدخل تركيا بصفتها ضامنة للاتفاق، وقد تم التوصل إلى اتفاق وقف النار بعد اتصال بوتين بأردوغان حسب مطالبة إلهام علييف رئيس أذربيجان؛ ومن المعروف أن تركيا وقفت بقوة إلى جانب أذربيجان وأمدتها بالسلاح ودعمتها بكل ما تستطيع لاسترداد سيادتها على الإقليم، كما أن تركيا، التي طالما صرح قادتها عن العلاقة الوثيقة بينها وبين أذربيجان بالقول: "شعب واحد في بلدين"، كانت، ولا تزال تطمح إلى فتح معبر بري عن طريق البند القاضي بإقامة شريط بري يصل بين جناحي أذربيجان: إقليم نخجوان والبلد الأم؛ ولهذا الشريط، في حال تحقق، أهمية استراتيجة ضخمة إذ يصل ما بين تركيا والبلاد التركية في آسيا الوسطى. فلا عجب أن شكك كثير من المراقبين بتنفيذ هذا البند الذي يحجّم نفوذ كل من روسيا وإيران. والواقع أن حرب 2020 أحدثت ثغرة مهمة في النفوذ الروسي في القفقاس وأدت إلى وجود رأس حربة للنفوذ التركي ليتوسع في القفقاس وعبرها إلى آسيا الوسطى، وهذا ما أزعج روسيا وإيران على حد سواء.
ومع أنه لا زال من غير الواضح من الذي بدأ الاشتباكات الأخيرة يوم الثلاثاء 13 أيلول 2022، إلا أنه الأعنف وهدد بإشعال فتيل حرب جديدة، وقد سقط مئة قتيل من الطرفين، وسط اتهامات متبادلة بينهما بتحميل الطرف الآخر مسؤولية ما جرى.
وهناك من المراقبين من قال إن أذربيجان تريد استغلال انشغال روسيا في حرب أوكرانيا والحاجة الأوروبية المتزايدة للغاز الأذري لتعويض نقص الإمدادات الروسية خاصة مع اقتراب فصل الشتاء، لفرض التوصل إلى حل نهائي للنزاع مع أرمينيا، بدل إضاعة الوقت في مماطلات. ففي 18 تموز 2022 وصلت فون در لاين المفوضة الأوروبية إلى باكو ووقعت اتفاقية لزيادة كمية الغاز من أذربيجان إلى أوروبا بمقدار 20 مليار متر مكعب. وأبدت أذربيجان استعدادها لمد أوروبا بمزيد من طاقة الهيدروجين والطاقة الشمسية، بعد أن وقعت اتفاقية مع شركة مصدر الإماراتية لبناء معمل تصنيع الهيدروجين من طاقة الرياح بقدرة 2 جيغاوات. وقد عبر عدد من المسؤولين الأرمنيين عن سخطهم بسبب خذلان قادة الاتحاد الأوروبي لهم وإيثارهم مصالحهم التجارية مع أذربيجان.
كما بدا واضحا انزعاج بوتين الشديد من اندلاع هذه الاشتباكات التي جاءت في غمرة تصديه لانتكاسات قواته في حرب أوكرانيا حيث استطاعت القوات الأوكرانية استرجاع قرابة 10000 كلم مربع من أراضيها.
في هذا الوضع لم يكن لدى موسكو ما تقدمه ليريفان سوى التعهد برعاية الحلول الدبلوماسية والعمل على وقف الاشتباكات. وقد رفضت موسكو تفعيل المعاهدة الدفاعية مع أرمينيا، ما أثار سخط أرمينيا.
فقد صرح رئيس البرلمان الأرمني آلن سيمونيان في مقابلة على التلفزيون الوطني: "بالطبع نحن مستاؤون جدا؛ فروسيا لم تلبّ توقعاتنا" وحسب ما نقلته وكالة إنترفاكس فقد شبّه سيمونيان منظمة اتفاقية الدفاع المشترك بأنها "كالمسدس الفارغ من الرصاص"، مضيفا: "نحن نتوقع أفعالا من شركائنا وليس مجرد تصريحات لفظية".
وهكذا نفهم الفرح العارم عند قادة أرمينيا بالزيارة الأخيرة التي قامت بها نانسي بيلوسي، رئيسة الكونغرس الأمريكي في 17-18 أيلول الجاري، فقد قامت، وهي تذرف الدموع، بوضع إكليل من الزهور على نصب ضحايا "الإبادة الأرمنية" المزعومة، والتي كان الكونغرس الأمريكي في 2019، برئاسة بيلوسي، أقر بوصفها إبادة جماعية محملا مسؤوليتها للخلافة العثمانية، كما قرر الرئيس بايدن في 24 نيسان 2022 الاعتراف بالإبادة الأرمنية.
وأطلقت بيلوسي سيلا من التصريحات النارية في دعم أرمينيا في صراعها، فقد صرحت في 17 أيلول أن زيارتها "إشارة قوية لالتزام الولايات المتحدة الراسخ بأرمينيا آمنة ومزدهرة وديمقراطية، وبمنطقة قوقاز مستقرة وآمنة". ثم صرحت بأن أذربيجان تتحمل المسؤولية عن الاشتباك الأخير، متعهدة بأن أمريكا مستعدة لتلبية حاجات أرمينيا الدفاعية وهي حريصة على الدفاع عن الدول الديمقراطية في مواجهتها ضد الدول الأوتوقراطية، أي المستبدة، وهذه نغمة (شعار) جديدة تروج لها أمريكا كما روجت من قبل تحت ستار (مكافحة الإرهاب). هذا التصريح الأخير لبيلوسي يكشف أن أمريكا تعمد إلى صب الزيت على نار الحرب لتوريط روسيا في ملف ساخن لا قِبَلَ لها بحله بطريقة سحرية ولا سريعة، بينما هي غارقة في حربها الكبرى في أوكرانيا، فضلا عن مواجهة النزاعات الأخرى التي اندلعت شرارتها بين قرغيزيا وطاجيكستان.
رأيك في الموضوع