لفت نظري في المقابلة التي أجرتها قناة العربية مع خالد مشعل بتاريخ 19 تشرين الأول 2023، قوله: قلت للرئيس الروسي ميدفيديف وللرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر: "إما أن ينصفنا المجتمع الدولي وفق القرارات الدولية وإما أن نقاتل". فنبحث فيما يأتي مسألة مطالبة المجتمع الدولي بإنصافنا وفق القرارات الدولية!
بداية ما هو المجتمع الدولي؟
تعتبر الأمم المتحدة المنظمة الدولية صاحبة القول الفصل في بحث القضايا الدولية، والبحث في اتخاذ مواقف وقرارات لحل الخلافات والأزمات التي تهدد السلم الدولي أو تشكل خرقا للشرعة الدولية، سواء فيما يعتبر تعدياً على حقوق الإنسان أو ارتكاب جرائم حرب وما شاكل، مع تخويل مجلس الأمن حق فرض القرارات بالقوة المادية متى لزم الأمر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذه المنظمة أنشئت في 26 حزيران 1945 في سان فرنسيسكو الأمريكية في الأيام الأخيرة قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وباشرت عملها بدءا من 24 تشرين الأول 1945 بعد تصديق الدول على اتفاقيتها. وبذلك ورثت الأمم المتحدة سابقتها منظمة عصبة الأمم، التي أسستها القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919، وذلك بموجب معاهدة فرساي "لتعزيز التعاون الدولي وتحقيق السلام والأمن".
وفي الحالتين فالمنظمة الدولية؛ الأولى والثانية، جاءت لتشكل مجلساً للدول الكبرى المتنافسة على كعكة الاستعمار العالمية، ولتنظيم أمور الخلاف التي قد تنشأ فيما بينها، وقد عانت عصبة الأمم من أزمات خطيرة حوّلتها إلى هيكل فارغ المعنى لأنها لم تملك من القوة المادية ما يمكنها من فرض إرادتها، وهذا ما تداركه منظمو وريثتها الأمم المتحدة.
ولكن ما يعنينا هنا هو فيما يتعلق بقضايا المسلمين، فمن أولى المهام التي قامت بها عصبة الأمم هي منحها صك الانتداب لكل من بريطانيا وفرنسا بحسب الاتفاقية المبرمة مسبقا بينهما، وهي اتفاقية سايكس-بيكو، التي توّجت جهودا مكثفة من الطرفين لرسم مناطق النفوذ في تقسيم تركة دولة الخلافة العثمانية، وتكشف هذه الجهود التي استغرقت عامين، إبان الحرب العالمية الأولى، عن المطامع الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا القيصرية قبل انسحاب الثورة البلشفية منها. فحين أصدر أرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا يومها، في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 وعده للمنظمة الصهيونية في لندن؛ بأن بريطانيا ستساعد في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فهذا الوعد لم تكن له أية قيمة حقوقية أو قانونية في القانون الدولي، فهو وعد صادر من حكومة إلى منظمة، وليس هناك ما يعطي هذا الوعد أية قيمة قانونية، حتى قامت عصبة الأمم بتضمينه في صك الانتداب الممنوح لبريطانيا على منطقة فلسطين، فهنا اكتسب وعد بلفور "شرعية دولية" إذ أصبح صادراً عن الإرادة السياسية العليا لـ"المجتمع الدولي"، والذي هو في واقعه مجتمع عصابة ضباع الاستعمار التي تتلطى بخرقة الشرعية الدولية.
ومن ثم قامت بريطانيا بتنفيذ مخططها الجهنمي باستقدام أفواج المستعمرين اليهود من أنحاء أوروبا، خلال فترة الانتداب وقامت بتزويدهم بأسباب القوة المادية التي تمكنهم من إعلان ولادة كيانهم المزعوم في 15 أيار 1948، على إثر انسحاب قوات الانتداب البريطانية؛ ثم سلسلة القرارت الدولية (181، 194، 242...الخ) التي كرست شرعية الكيان اللقيط الذي زرعته بريطانيا. ولكن القوة المادية بحد ذاتها لم تكن كافية لحماية الكيان الوليد الجديد، بل أمّنت بريطانيا له أسباب الحماية عن طريق الحكام الذين نصبتهم نواطير حراسة على حظيرة سايكس بيكو، فقاموا بتعطيل فريضة الجهاد، وبالبطش بكل من يعمل لتحطيم قيود أقفاص الحظيرة المسماة أوطاناً.
من هنا ندرك خطورة ما قاله السيد خالد مشعل عن المطالبة بإنصاف المجتمع الدولي، وهو يعلم حق العلم أن ضباع المجتمع الدولي قد تكالبت بداية على مكر الليل والنهار حتى تمكنت من هدم دولة الخلافة العثمانية، ثم قامت بتقسيم وحدة الأمة إلى كيانات هزيلة جعلتها أقفاصا تستعبد الشعوب تحت عناوين الوطنية وما بني عليها من مفاهيم وأحكام تدفع المسلمين إلى التقاتل فيما بينهم، سواء للدفاع عن الحدود الوهمية للوطن المزعوم أو لخدمة مآرب المستعمر الغربي! وبينما يفرض الإسلام على المسلمين تلبية فريضة الجهاد لنصرة إخوانهم في غزة وتحرير فلسطين كلها، نجد أن الفصائل في غزة تصدر بيانا تشيد فيه بجهود مصر لفتح معبر رفح، لتمرير بعض الفتات من المساعدات! ونجد أن خالد مشعل، في المقابلة المذكورة، يثمّن فيها البيان الذي أصدرته 57 دولة في منظمة التعاون الإسلامي إثر اجتماعها الاستثنائي الطارئ في جدة في 19 تشرين الأول الماضي!
فعن أي إنصاف يتحدثون؟! عن تقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة يهودية والثانية فلسطينية وفق القرار 181؟! أم وفق القرار 242 الذي طالب المحتلين بالانسحاب من "أراض" احتلوها في مهزلة 5 حزيران 1967 حين قام المحتلون باحتلال سيناء والضفة الغربية والجولان؟!
هل هذا هو الإنصاف الذي يقره شرعنا؟! أم أنه يأمرنا بطرد المعتدين المحتلين من كل شبر احتلوه؟ والتاريخ يشهد أن الدولة الإسلامية كانت رحيمة منصفة بأهل الذمة الذين ضمنت لهم حرية العقيدة والعبادة ولا يفتنون عن دينهم، ولا يتم التمييز ضدهم بأي شأن من شؤون الرعاية!
إن خطورة هذا الطرح تكمن في فكرة قبول الاحتكام إلى شرعة ضباع الاستعمار ومطالبتهم بالعدل والإنصاف، بينما هم أصل الداء في الحقيقة، سواء فيما يتعلق بمسألة فلسطين أم كشمير أم قبرص أم غيرها من المسائل؛ ومن يأتمن الذئب على الغنم كان متهما في عقله أو في سذاجته! وهنا نحذر من خطورة ما يطبخ في العواصم لما يسمونه "اليوم التالي"، أي بعد توقف القتال في غزة. فما عجز عنه العدو في الحرب يحققه عبر تواطؤ الحكام وخيانتهم؛ وهنا لا نستثني أحدا، فلكل منهم حظه من الخيانة: سواء المعطل لفريضة الجهاد (وهذا يشملهم كلهم فقد قيدوا أنفسهم بشرعة المجتمع الدولي)، أو الساعي لإقناع قادة المجاهدين في غزة بضرورة قبول كذا أو كذا من بنود الحل المسموم، أو من يقدّم "ضمانات" بأنه سيبذل كذا وكذا من المساعدات لضحايا المجرمين وداعميهم من الدول الغربية، فكل هذا جملة وتفصيلا خيانة موصوفة للأمانة التي أوجب الله على المسلمين القيام بها وهي: وجوب إعلان الجهاد وعدم التوقف حتى يتحقق خلع جرثومة الاحتلال كاملة مرة وإلى الأبد، وما سوى ذلك من الطروحات فإنه خيانة للأمانة وتعطيل لما أمر الله به، ولا يُقبل من فصائل المجاهدين ولا من قيادتهم السياسية تبرير الحلول المسمومة بدعاوي أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، فهذا كان شعار ياسر عرفات حين اعترف بالقرار 242، أي بشرعية الكيان المحتل، في حرب بيروت عام 1982.
رأيك في الموضوع