ضمن سردية حسم الصراع يتم استخدام روايات وأكاذيب تقوم على تلفيق شتى التهم بكل من يعارض الحرب الإجرامية التي يقوم بها كيان الاحتلال في غزة، مع الدعم التام من الإدارة الأمريكية، وفي هذا السياق صدّق مجلس النواب الأمريكي في 5/12/2023 على قرار غير ملزم ينص على أن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية". ويدين القرار بشدة جميع أشكال معاداة السامية، ويؤكد دعم مجلس النواب القوي للجالية اليهودية في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم في أعقاب "تصاعد الخطاب والإجراءات المعادية للسامية" التي أثارتها الحرب بين (إسرائيل) وحماس، والتي بدأت عندما هاجمت حماس كيان يهود في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وينص القرار "بوضوح وحزم" على أن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية.
وهكذا دأب ساسة الكيان الصهيوني، وحاشيته من المنافحين عن إجرامه وعدوانه في غزة، على وصم تهمة "معاداة السامية" بكل من يتجرأ على المطالبة بوقف حمام الدماء وحرب الإبادة الدائرة في غزة.
فما واقع هذه التهمة (معاداة السامية)؟ وهل يصح لصقها بكل من يعارض ممارسات كيان الاحتلال؟
تعود جذور معاداة السامية إلى القرون الوسطى، حيث نظر قادة الكنيسة الكاثوليكية إلى اليهود في أوساط المجتمع الأوروبي نظرة ريب وتوجس، لعدة أسباب، من أهمها، كما يرى الباحثان ألان كاتلر وهيلين كاتلر في كتابهما The Jew as ally to the Muslim (اليهودي حليف المسلم)، أن اليهود في غرب أوروبا تعود أصولهم إلى بلاد العرب التي هاجروا منها إلى غرب أوروبا، وكانوا يحتفظون بعلاقات تجارية قوية مع ديار المسلمين مكّنتهم من جني ثروات طائلة، كما كانوا يرون أن المسلمين، بعقيدة التوحيد، كانوا أقرب إليهم عقديا من عقيدة التثليث النصرانية، كما أن المسلمين عاملوهم بتسامح مكّنهم من نشاط اقتصادي قوي. ولذا، كما ينقل الباحثان، كان أقطاب اليهود يستبشرون بفتوحات المسلمين إذ رأوا فيهم حكّاما منصفين متسامحين بخلاف حكّام الرومان الذين سبق أن أجلوهم من فلسطين.
جاءت هزيمة المسلمين في الأندلس لتشكل منعطفا مهما في فتح صفحة جديدة من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية للمسلمين واليهود على حد سواء. وكما ذكرت البروفيسورة روزماري روذر، من جامعة هاورد في أمريكا، فإن الكنيسة الكاثوليكية غرست أسس شيطنة اليهود في المجتمع الأوروبي ما أدى إلى انتشار معاداة السامية وكراهية اليهود في أوروبا.
ويستند الباحثان كاتلر في كتابهما إلى دراسة مجموعة من النصوص الصادرة عن أقطاب اليهود من الحاخامات والمفكرين البارزين في كتاباتهم التي تشير إلى ارتياح اليهود لمعاملة المسلمين لهم قبل فقدانهم الأندلس.
ضراوة الصراع بين أوروبا الصليبية ضد المسلمين وترويج مفهوم أن اليهود هم بمثابة "طابور خامس" في المجتمعات الأوروبية، لكونهم حلفاء المسلمين، بالإضافة إلى انتشار كراهية اليهود ربما بسبب حيازتهم على قدر مهم من الثروة الاقتصادية، كل هذه العوامل ساهمت في وقوع العديد من المجازر بحق اليهود في المجتمعات الأوروبية، ضمن مساعٍ لطردهم والتخلص منهم.
ومع نشوء فكرة الدولة الوطنية في القرن التاسع عشر القائمة على مفهوم الشعب القومي ما أدى إلى التشكيك في ولاء اليهود لمجتمعاتهم، وظهرت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، وكتب الصحفي ثيودور هرتزل كتيبه "الدولة اليهودية" في 1896 يدعو فيه لحل المسألة اليهودية بإقامة دولة يهودية تلم شتاتهم وتؤويهم من المجتمعات الطاردة لهم، دون أن يكون هذا البلد فلسطين بالضرورة. فهرتزل لم يكن يهوديا ملتزما وإنما كان علمانيا لا يفقه في اليهودية شيئا، ولكنه آلمه ما يتعرض له اليهود من محن حيثما كانوا، خاصة على إثر محاكمة الضابط اليهودي الفرنسي درايفوس الذي اتهم زورا بأنه سرب أسرارا عسكريا للجيش الألماني، وكان هرتزل، كونه مراسلا لصحيفة من فيينا، يغطي مجريات المحكمة وما أثارته من هياج في الرأي العام الفرنسي ضد اليهود. وبالتنسيق مع آخرين تمكن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في 1897، والذي تبنى ضرورة السعي لإقامة وطن قومي لليهود. واقترح هرتزل إقامة الدولة في أوغندا لأنه لم يكن يدرك رمزية القدس وفلسطين لليهود المتدينين الذين غلبوه على أمره ودفعوا باتجاه اعتماد فلسطين مكانا للدولة المنشودة.
ومع ذلك فالحركة الصهيونية كان تأثيرها السياسي في الواقع صفرا، وبقيت كذلك حتى انتشلتها السياسة الاستعمارية البريطانية من ركودها خلال الحرب العالمية الأولى، حين سعى مارك سايكس إلى الترويج للكيان اليهودي في فلسطين، فقام بعقد اجتماع مع قادة الحركة الصهيونية في لندن في بداية شباط/فبراير 1917 وعرض عليهم مقترحه فرحبوا بذلك. وتمهيدا لإصدار "وعد بلفور" قام مارك سايكس بجولات مكثفة من اللقاءات الدبلوماسية فرتب لوفد الحركة الصهيونية اجتماعات في الخارجية الفرنسية في باريس ومع البابا في الفاتيكان، وقامت بريطانيا بالحصول على موافقة الحلفاء: أمريكا واليابان، وهذا كله تُوّج بإصدار "وعد بلفور" في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917. علما أن بلفور، وزير الخارجية في 1917، كان سن قانونا في 1905 وكان حينها رئيسا للحكومة البريطانية، يحظر فيه دخول اليهود الهاربين من مجازر شرق أوروبا إلى بريطانيا، كما أن لويد جورج، رئيس الحكومة في 1917، لم يكن يهتم البتة لمعاناة اليهود، كما يورد البروفيسور الأمريكي ديفيد فرومكين في كتابه: "نهاية الدولة العثمانية وولادة الشرق - الصلح الذي أنهى كل سلام". ويوثّق فرومكين أنه عشية الحرب العالمية الأولى كانت الميزانية السنوية للحركة الصهيونية في أمريكا لا تتجاوز 5200 دولار.
ولا بأس من التنويه هنا إلى أن اليهود المتدينين عارضوا بشدة الصبغة السياسية للمشروع الصهيوني، بل كانوا يرون أن اليهودية هي ديانة تعبدية فحسب، وليست مشروعا سياسيا، ولا زال إلى الآن طائفة من اليهود المتدينين ينددون بالكيان الصهيوني ويرونه خروجا عن التعاليم التوراتية.
كل هذا يدل على أن السياسة الاستعمارية لبريطانيا هي التي اقتضت زرع جرثومة كيان الاحتلال في قلب الأمة الإسلامية، ثم ورثتها أمريكا في مد هذا الكيان بأسباب البقاء.
ولا بد من الذكر هنا باختصار أن بريطانيا أقامت خطوط دفاع تحمي الكيان اللقيط في فلسطين، وذلك من خلال إضفاء الشرعة الدولية على "وعد بلفور" وهو الوعد الذي لا قيمة له في القانون الدولي، ولكن إدراجه في صك الانتداب الذي منحته عصابة عصبة الأمم لبريطانيا منحه "الشرعية الدولية"، وحيث إن هذا لم يكن يكفي لفرض الكيان قامت بريطانيا بإحاطته بمنظومة من الأنظمة العربية تسهر على حمايته وتحول دون خلعه من قبل المسلمين، وتجسد هذا جليا فيما سمي حرب 1948 حين دخلت جيوش سبع دول عربية لا لطرد الصهاينة المحتلين بل لمنع المسلمين من طردهم.
وإنه لأمر جلل أن نسمع من يطالب المجتمع الدولي بإنصافنا "وفق القرارات الدولية"، ولا يعقل أن المطالبين هؤلاء يجهلون أن المجتمع الاستعماري الدولي هو الذي غرس جرثومة الاحتلال وأمدها بأسباب الحماية والبقاء، فماذا نقول عمن يأتمن الذئب على الغنم؟!
رأيك في الموضوع