في مقالتي هذه سأتناول جانبا مهما يتعلق في فهم كيف تمكن الغرب المستعمر من هدم دولة الخلافة، وليس الغرض هنا البكاء على الأطلال، بل تسليط الضوء على جانب من جوانب الصراع الشرس الدائر بين أهل الحق وأهل الباطل، فيجب أن يكون واضحا عند الجميع أن الغرب الكافر لم يتمكن من ارتكاب جريمته الكبرى بإلغاء دولة الخلافة على يد المجرم مصطفى كمال في 28 رجب 1342هـ، إلا بعد أن قام المستعمر، وعلى رأسه يومذاك بريطانيا، بسلسلة أعمال وخطوات مهدت لتلك الكارثة الفاجعة.
فما كان لبريطانيا أن تتمكن من جريمتها تلك لولا أدواتها التي يطلق عليها "الطابور الخامس" الذي عمل عبر عقود على خلخلة قواعد المجتمع الإسلامي وأسس الدولة الإسلامية على أيدي حشد من العملاء ارتضوا لأنفسهم مد يد العون لعدو الدين والملة في الترويج لسمومه الهدامة وفي سعيه لهدم صرح الدولة الإسلامية، التي عاش المسلمون في كنفها منذ هجرة النبي ﷺ إلى المدينة المنورة.
ومن يراجع سير الوقائع في القرن التاسع عشر الذي شهد الحملة الفرنسية على مصر ثم ارتكاز فرنسا على محمد علي باشا للعمل الحثيث على ضرب أسس المجتمع المسلم بغرس بذرة الفكر العلماني والتمهيد للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية التي تناقض العقيدة الإسلامية وتهدم أحكام الشريعة، يدرك أن هذا أمر ما كان له أن يتم بين عشية وضحاها، بل استغرق عقودا طويلة واتخذ أساليب شتى من تأسيس المدارس التبشيرية واحتضان ثلة من رجالات المسلمين والنصارى بحيث يقوم كل واحد منهم بضرب مدماك من مداميك الحضارة الإسلامية والترويج لشبهات المستشرقين التي تطعن في الدين، وتزين سموم الفكر الغربي.
ومن الملاحظ أن عددا من هؤلاء ربما قاموا بهذه الأعمال من قبيل طلب الإصلاح بعد أن لاحظوا تخلف المسلمين في وجه تعاظم القوة المادية التي شهدتها أوروبا، فنادوا باقتباس كذا وكذا من النظم الإدارية، ودعوا إلى وجوب النهضة بالمسلمين باقتفاء أثر الحضارة الغربية؛ تارة بالدعوة إلى فكرة الوطنية (وأول من فعل ذلك الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي الذي مكث في باريس ما بين 1825-1831)، وتارة إلى إجراء إصلاحات تنظيمية، فيما عرف بالتنظيمات العثمانية 1839، وتارة بإنشاء الجمعيات السرية، برعاية المخابرات الأوروربية من وراء ستار، للمطالبة بإنصاف العرب في الظاهر مع زعم إصلاح الدولة العثمانية، وصولا إلى الدعوة لإقامة مملكة عربية منفصلة عن الحكم العثماني التركي، خاصة وقد تزامنت هذه الدعوات مع اشتداد الدعوة إلى القومية الطورانية في تركيا التي تمكنت من خلع الخليفة عبد الحميد الثاني، وانطلق قادتها في تشديد سياسة التتريك ما أثار حفيظة العرب.
ما يهمنا هنا أن هؤلاء الرجال، وقد كشف الباحث موفق بني مرجة الكثير من خفاياهم وحقيقة ارتباطهم بالمخابرات الأوروبية في كتابه "صحوة الرجل المريض"، منهم من ظن أنه في مسعاه يُحسن صنعا، وفاته الوعي السياسي على حقيقة مكر الاستعمار الغربي، كما أن منهم، خاصة من نصارى الشام، من كان يعي واقع الأمر ويدفع بقوة لهدم الدولة العثمانية والترحيب بالانتداب الفرنسي والبريطاني.
وكان من أخطر الأدوات التي استعملتها بريطانيا تأليف الجمعيات السرية التي اتخذت عناوين شتى وأسماء متعددة تزعم أنها تريد الإصلاح وإنصاف العرب في السلطنة العثمانية.
ومن أشهر تلك الجمعيات جمعية العربية الفتاة التي تأسست في أوروبا عام 1909 وكانت غايتها،كما جاء في اللائحة الداخلية، استقلال البلاد العربية استقلالا تاما، وهذه الجمعية، التي تفرعت عنها جمعيات أخرى لتوسيع "وهم" وجود فئات عريضة من الناس تطالب بمطالبها، هي التي قامت بتنظيم المؤتمر العربي الأول في باريس في حزيران 1913. ورغم أن المشاركين في المؤتمر المزعوم كانوا حفنة لا يمثلون إلا أنفسهم إلا أن باريس ولندن روجتا للمؤتمر لجعله ناطقا باسم الشعب العربي؛ ولحاجتها إلى غطاء يبرر عقده في باريس طلبت الجمعية من حزب اللامركزية الإدارية في القاهرة أن يترأس المؤتمر فقام الشيخ رشيد رضا بانتداب نائبه الشيخ عبد الحميد الزهاوي لرئاسة المؤتمر، وهذا ما كان. علما أن من يطلع على برنامج الحزب يجد أنه ينصّب نفسه كحكومة ظل يريد فرض آرائه على الخلافة العثمانية، بينما لم يبذل أدنى جهد في الدعوة، فضلا عن العمل، لطرد الاحتلال الإنجليزي وتطهير مصر من دنسه، بل صب جام غضبه على الخلافة العثمانية واتبع كل السبل لتحقيق الاستقلال الناجز عنها، وكل ذلك بحضانة ورعاية بريطانيا والنصيحة الخالصة التي قدمها لها مشايخ المسلمين على شاكلة محمد عبده ورشيد رضا وهم يزعمون أنهم يريدون الإصلاح!! ومع أن قادة حركة الاتحاد والترقي دعوا الزهاوي إلى إسطنبول فلبّى الدعوة وعينوه في مجلس الأعيان العثماني، في محاولة لرأب الصدع ولجم حركة هؤلاء المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي الإنجليزي، بل وطلبوا من الزهاوي استدعاء رشيد رضا إلى إسطنبول لتعيينه في مركز رفيع إلا أنه آثر حضن الإنجليز في القاهرة ورفض الذهاب إلى إسطنبول.
المصيبة هنا أنك لو سألتهم يومها ماذا أنتم فاعلون وكيف تبررون تقربكم من المحتل المستعمر؟ لكان جوابهم أننا نسعى إلى إصلاح الدولة العثمانية العلية، وعلينا إصلاح الأزهر وعلينا تخفيف وطأة الاحتلال، وعلينا كذا وكذا من الأوهام التي عشعشت في عقولهم المريضة. وما زال هذا ديدن بعض محبيهم حتى اليوم يبررون لهم صنيعهم وما قاموا به من المساهمة في هدم دولة الخلافة، ثم إذا احتد النقاش يأتيك الجواب أنهم أرادوا الإصلاح وأنهم كانوا "أصحاب نوايا حسنة"، حتى لو نجح الإنجليز في تسخيرهم لخدمة مآربهم.
وهنا بيت القصيد: التنبيه إلى خطورة استمرار هذا النهج الذي يدعو، من باب مقولة "تقاطع المصالح"، إلى بناء العلاقات مع هذه العاصمة أو تلك، سواء من الأنظمة الإقليمية أو حتى من العواصم الغربية، استنادا إلى "النوايا الحسنة" في سبيل إصلاح ما أمكن من الأوضاع المزرية التي تعيشها الأمة. فما قام به الشريف حسين، وغيره من رجالات الجمعيات السرية من أعمال مكّنت بريطانيا من هدم دولة الخلافة، لا زال يكرره اليوم البعض من باب تغليب النية الحسنة، دون أن يتعلموا من دروس التاريخ وشواهده؛ وهذا ما وقع مع بعض قادة الجهاد الأفغاني الذين دخلوا كابول على ظهر الدبابات الأمريكية عام 2001، وما يسمى المعارضة العراقية الذين استعانت بهم أمريكا وبريطانيا في التحضير لاحتلال العراق عام 2003، ولم يتورع هؤلاء الذين رفعوا شعارات تحرير العراق من دكتاتورية صدام حسين عن التعاون مع الاحتلال الأمريكي وفي العمل تحت سقفه بعد سقوط صدام حسين، وكذلك راهنت فصائل الثوار في سوريا على دعم عواصم الجوار وغرف الموك والموم.
فلا بد للعاملين لتحطيم قيود التبعية للغرب المستعمر الساعين لنهضة الأمة بإعلاء كلمة التوحيد من أن يعوا جيدا دروس التاريخ، والتزود بالوعي السياسي التفصيلي فلا يقعوا في حبائل المستعمرين وأدواتهم من نواطير سايكس بيكو، كي لا ينتهوا كمن يحرث في البحر، أو، وهذا أنكى وأشد مرارة، ينتهوا بخدمة مآرب أعداء الدين والملة وهم لا يشعرون!
رأيك في الموضوع