جميع الدول والشعوب الحية تسعى إلى التحرر من الاستعمار، إلا أن الاستقلال لا يكون بطرد مستعمر واستبدال حاكم به يسير وفق إرادة المستعمر كما هو الحال في البلاد الإسلامية اليوم، وإنما يكون عندما تصبح السيادة والسلطان في البلد لأهله.
وللاستقلال ثمن يجب أن تدفعه الشعوب والأمم، وقد يكون ثمنا باهظا، ولكنه لا يقارن بالمكاسب الجمة والمرابح العظيمة التي يأتي بها الاستقلال، لأن الفرق بين التبعية وبين الاستقلال هو كالفرق بين العبد والسيد، وبين الذليل والعزيز، فمهما دفع العبد من ثمن لنيل حريته سيكون هذا الثمن قليلا وتافها مقابل يوم كيوم الأسياد والأحرار والأعزة، وصدق الشاعر إذ قال: تريدين إدراك المعالي رخيصة *** ولا بد دون الشهد من إبر النحل. وقال: يا طالب الحسناء إن صداقها *** صعب على قصير الباع.
ولقد حرم الإسلام على الأمة الإسلامية أن تعيش تبعا لغيرها من الأمم، فالأمة الإسلامية علاوة على أنها يجب أن تكون في الصدارة في كل شيء فهي أيضا مؤتمنة على دين الله ورسالة نبيه، فكيف تكون تابعة لغيرها من الشعوب والأمم؟! كيف تقبل أن تكون خانعة خاضعة للغرب الكافر المستعمر، والله تعالى يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾؟!
إن الاستقلال الحقيقي يكون بالانعتاق الفكري والسياسي بالتوازي مع الانعتاق العسكري، فلا يمكن أن تستقل الشعوب وهي تحمل نفسية العبيد، ولذلك لا بد من استبدال الأفكار التي أدت بالشعوب للخنوع والتبعية وغرس أفكار مكانها تقودهم للاستقلال والانعتاق والسيادة، وبدون ذلك ستكون المحاولات عبثية لا طائل منها، بل ضياع للجهود والطاقات. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
فالأفكار والمفاهيم والقناعات هي التي تحول السيد إلى عبد والعبد إلى سيد، والأمثلة كثيرة من واقعنا؛ ونضرب مثالا الشيشان، فلقد كان الشيشان يحملون راية الجهاد والمقاومة ضد الروس أعداء الله، ولقد سطر المجاهدون الأبطال أمثال جوهر دوداييف، وشامل باساييف خير أمثلة البطولة والسعي الحقيقي للاستقلال عن روسيا، فقد استطاع الشيشانيون بقيادة جوهر دوداييف رحمه الله نيل استقلالهم عن روسيا وإجبارها على توقيع اتفاقية سلام مذلة آنذاك. إلى أن جاء قديروف وابنه رمضان اللذان حولا أهل الشيشان من ند وخصم عنيد حر مستقل عن إرادة روسيا إلى أن يصبحوا بيدقا بيد نظام بوتين الكافر يحركهم كما في لعبة الشطرنج.
لقد فقدت الشيشان استقلالها وعادت لأحضان روسيا، بل صارت حربة بيدها ترمي بها أعداءها، بعد أن كانت ندا وخصما شرسا لها. ولقد بلغ الحال أن صار رئيس الشيشان الحالي رمضان يلقب بابن بوتين المسلم. فما الذي تغير، هل تغير الناس أنفسهم أم أن أفكارهم ومفاهيمهم وقناعاتهم هي التي تغيرت؟ وما الذي ينقص الشيشان لتعود من جديد مستقلة وشوكة في حلق روسيا؟ لا شك أن المفاهيم الجديدة التي حمل قديروف وابنه رمضان شعب الشيشان عليها هي سبب التبعية التامة لروسيا.
ومن باب المفارقة العظيمة الآن بين الشيشان والأفغان؛ فمع أن كلا الشعبين يحب الجهاد والقتال في سبيل الله، فهما شعبان تاريخهما مليء بالأمجاد والبطولات، شعبان كبّدا الكفار شتى أنواع الخسائر والهزائم عبر القرون، إلا أن الأفغان اليوم كبدوا أمريكا أكبر خسارة وأجبروها على الرحيل، بينما استولى على الحكم في الشيشان قديروف وابنه رمضان بمساعدة بوتين وفقدت الشيشان استقلالها، وها هم جنود الشيشان يقاتلون الأوكران لصالح روسيا، ويُقتلون في أوكرانيا في سبيل أمجاد روسيا!
إن روسيا اليوم تعاني الأمرين في أوكرانيا وقد دخلت في نفق مظلم لا تكاد ترى نورا في آخره. فقد اجتمع عليها الغرب لهزيمتها واستنزاف طاقاتها وثرواتها، فما الذي يمنع الشيشانيين الآن من الانقلاب على رمضان الخائن والانسحاب من أوكرانيا وتعميق أزمة روسيا وتمريغ أنفها هناك؟ ما الذي ينقص أبطال الشيشان من فتح جبهة ضد روسيا الآن لنيل استقلالهم من جديد؟! أليس القتال لتحقيق النصر والاستقلال عن روسيا هو أفضل من الموت من أجل أمجادها في أوكرانيا؟! أما آن لأبطال الشيشان أن يستغلوا هذه الفرصة وهذا الوضع العصيب الذي تمر فيه روسيا اليوم لنيل استقلالهم من جديد؟!
بقلم: د. فرج ممدوح
رأيك في الموضوع