لا تكاد الأحداث تتوقف في الأرض المباركة، خاصة في ظل جرائم كيان يهود المستمرة؛ من قتل واعتقال وتدنيس للمسجد الأقصى وهدم ومصادرة للأراضي وبناء للمستوطنات، ما يجعل القضية حاضرة على المشهد لا تغيب، وأمام تلك الحالة التي تستوجب الوعي السياسي والمواقف الشرعية التي تخدم القضية وتحرك الأمة لإنهاء تلك العذابات، تختار السلطة المضي في طريق التنازل والخيانة والانبطاح والتمسك بحلم بات يراود رجالات السلطة، وهو أن يقبل كيان يهود بالجلوس معهم على طاولة المفاوضات مجددا لبحث السلام المزعوم والدولة الموعودة، عله يقبل بذلك! وفي المقابل تختار الفصائل خذلان الأمة التي منحتها الثقة والتأييد ورفعت من مكانتها وأفردت لها منزلة خاصة، فتغمض حركة حماس عينيها عن جرائم بشار الأسد التي فاقت الوصف وتسببت بملايين الشهداء والمعتقلين والمفقودين في سجون متوحشة لا تحتمل النفس السوية السماع عما فيها من تعذيب وقهر من أناس خرجوا منها بأعجوبة أحياء، إضافة إلى براميل متفجرة تسببت في تهجير شعب من أرضه فأصبحوا بين غريق في البحر ومضطهد في بلاد الغرب ومظلوم في دول الجوار، تتجاوز عقلية ونفسية حماس التي ترفع شعار الإسلام كل ذلك، وتعلن المصالحة مع نظام الأسد وذلك رغم التحذيرات الكثيرة لها من الإقدام على ذلك من جهات مختلفة في الأمة وحريصة عليها! وأمام تلك المواقف من السلطة والفصائل بحجة القضية ومصلحتها كان لا بد من تبرئة القضية من ذلك.
لم تكن قضية فلسطين في يوم من الأيام قضية مجهولة العلاج ليتم تسول الحلول لها من على منابر الأمم المتحدة بطريقة التسول السياسي الذي تترفع عنه بعض حركات التمرد في جمهوريات الموز وأفريقيا، ولم تكن قضية فلسطين في يوم من الأيام قضية مجلس الأمن والدول الكبرى ومؤسساتها ليطلب منهم الحل، كيف الحال وهم أصل المصيبة والاحتلال؟! ولم تكن قضية فلسطين في يوم من الأيام مصدر تشريع تبيح الحرام وتحرم الحلال، بل هي تخضع للحكم الشرعي ولا تتجاوزه، ولم تكن مصلحتها في لحظة من اللحظات على حساب آهات الأمة ودمائها وبلادها بل هي جزء من جرح لا يتجزأ ودماء زكية لا تتميز بعضها عن بعض.
إن خطاب رئيس السلطة الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يظهر حالة الإفلاس السياسي الذي وصلت له السلطة واقترابها من حالة اليأس من تنفيذ مشروع الدولتين وقرارات الأمم المتحدة، وهذا كان واضحا من كلام عباس وظاهرا على ملامح وجهه، ولم يبق إلا أن يُقبّل عباس وزمرته أقدام أمريكا والغرب وكيان يهود لإعطائهم بقعة أرض تقام عليها دولة، وهذا كان صنيع أيديهم وعصارة إنجازاتهم بواسطة مظلتهم السياسية وأداتهم التصفوية، منظمة التحرير، التي اختارت السلام والمفاوضات والاعتراف بكيان يهود وإعطاءه كل ما يريد والانصياع له والتنازل عن الثوابت شيئاً فشيئاً أمام رغباته، حتى اعتمد كيان يهود مع المنظمة والسلطة سياسة "كلما ضغطت أكثر أخذت أكثر"، حتى حقق معظم ما يريد دون أن يعطي شيئا للمنظمة والسلطة حتى وصلنا للأحداث الأخيرة، حيث وجدت السلطة آليات كيان يهود تسرح وتمرح في الضفة وتمارس سيادتها بشكل مباشر من اعتقال وتفتيش وإغلاق. وأيضاً وجدت قادته يتواصلون مع الناس بشكل مباشر لترتيب دخول العمال وخروجهم دون الحاجة لما يعرف بالارتباط ووساطة السلطة، وكذلك لم تعد السلطة تطيق مواكبة إصدار بيانات رسمية لإدانة مشاريع الاستيطان في الضفة لكثرتها، وأصبح وضعها حرجا بفعل التنسيق الأمني وما يتطلبه من جرائم تغضب أهل فلسطين! وبعد كل ذلك ما زالت المنظمة والسلطة متمسكة بطريق المفاوضات ومشروع الدولتين وتستنجد بالمؤسسات الدولية ومجلس الأمن والأمم المتحدة وتأمل خيراً في كيان يهود، في مشهد عجيب غريب من التناقض كان ظاهراً في خطاب عباس، كمنتحر يصف سماً تجرعه ويكاد يفتك به وبعد ذلك يقول لعل العلاج في الجرعة الثانية أو ربما الثالثة!!
وعلى الطرف المقابل كانت الفصائل خارج إطار المنظمة، وخاصة حركة حماس، مشغولة باللقاءات السياسية والمصالحات الودية مع الأنظمة الظالمة، فكان رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية مشغولاً بالتنقل بين روسيا العدو اللدود للإسلام والمسلمين، وبين الأنظمة الخائنة في بلاد المسلمين؛ ليعلن أبرز إنجازاته الأخيرة، وهي المصالحة مع نظام الأسد ليسير على خطا منظمة التحرير في صفع الأمة وخذلان ثقتها التي تعطيها بكل صدق وإخلاص لكل من ترى أنه يذود عن أرضها ومسرى نبيها ﷺ، فأعطتها سابقاً لفصائل المنظمة واحتضنتها ومن ثم صفعوها فلفظتهم، ومن ثم لطيب أصلها ونقاء مشاعرها أعادت الكرة وأعطتها للحركات التي تحمل شعار الإسلام، فكانت الصفعة أقوى وذلك بدل أن تصون تلك الحركات هذه المكانة الرفيعة وتوظفها لخدمة القضية، بل إنها لم تكتف بذلك بل اختارت الدفاع عن موقفها والتعالي على الأمة وعلى من أنكر عليها ذلك المنكر، وكما كانت تفعل منظمة التحرير عند كل اعتراض ترفع فيتو مصلحة القضية من وجهة نظرها، وهكذا كان الحال عند حماس؛ تبرير بحجة مصلحة القضية التي هي بريئة من هذا الاتهام الباطل الذي سيق للتغطية على مخالفة شرعية واضحة وتيه سياسي خطير!
إن قضية فلسطين على مكانتها وأهميتها تبقى واحدة من قضايا المسلمين المتعددة والكثيرة، ولها أحكامها الشرعية الواضحة والمعلومة من الدين بالضرورة، ولا مصلحة للقضية في تلك التحركات السياسية التصفوية من المنظمة، ولا في تلك المتلونة من الفصائل، ولا في الارتماء في أحضان الأنظمة العميلة والجلوس على موائد الدول الكبرى، ولا بالركون للظالمين والمجتمع الدولي ومؤسساته الاستعمارية، وإنما مصلحة القضية هي كما حددها الشرع ووفق أحكامه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾، وهي العمل على تحرير هذه الأرض وفق الحكم الشرعي الذي يوجب على أهل فلسطين الاستنصار، ويوجب على المسلمين وجيوشهم نصرتهم، وبين الاستنصار والنصرة عمل سياسي دؤوب لتحقيق ذلك بإسقاط الأنظمة التي تحول بين الأمة وقضيتها ورباط وثبات وخير كثير في جهاد المخلصين من أبناء فلسطين، أما البحث عن دويلة وسلطة وزعامة ورئاسة على أرض محتلة والركض خلف مكانة ووجود بين أنظمة خائنة ومنظومة دولية فاسدة فهو تيه وضياع وتضييع للقضية.
بقلم: د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع