في 5 حزيران/يونيو 1947، ألقى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال كلمة في جامعة هارفارد، أوجز فيها برنامجا للمساعدة في إعادة بناء أوروبا التي مزقتها الحرب، وسمي هذا البرنامج بـ"خطة مارشال".
يشار إلى أن الحرب العالمية الثانية، التي كانت انتهت لتوها على الأرض، قد تسببت في إلحاق أضرار اقتصادية ومادية وديموغرافية فادحة بجميع البلاد دون استثناء، وعانت جميعها من أوضاع اقتصادية شديدة الصعوبة. دولة واحدة فقط هي أمريكا مرت بفترة الحرب العالمية، بسهولة نسبية وأحيانا بفوائد.
نتيجة للحرب، استحوذ الاقتصاد الأمريكي على حوالي 60٪ من الإنتاج الصناعي وأكثر من 30٪ من صادرات دول الغرب، وكذلك نحو 70٪ من احتياطي الذهب العالمي، وحانت الفرصة بالنسبة لأمريكا لتقرير كيفية ترتيب الوضع اقتصاديا في أوروبا ما بعد الحرب.
وفي ذلك الوقت تنافست مجموعتان سياسيتان في أمريكا هما "الصقور" ويعد مارشال منها، وتتبنى سياسة التدخل المستمر في الشؤون العالمية، و"الانعزاليون الجدد"، وتتبنى سياسة حصر التدخل في العالم الجديد فقط.
ساد التوجه الأول، على الرغم من أن الأخير كان مدعوما من هنري والاس، نائب رئيس أمريكا السابق.
عرض مارشال أن تمنح أوروبا مبلغا هائلا في تلك الأوقات يقارب 13 مليار دولار. وبهذه الأموال، كان من الممكن عمليا إعادة بناء العديد من البلاد من الصفر. ومن أجل تحديد من سيحصل على المبلغ، شكل الأمريكيون لجنة خاصة للمساعدات الاقتصادية، عملت مع الدول الأوروبية، لتحديد مقدار المساعدات.
وقد وُزعت تلك المساعدات على دول الكتلة الغربية بحسب حاجتها وعدد سكانها، فكان النصيب الأكبر للمملكة المتحدة، ثم فرنسا، تليها ألمانيا الغربية. أما الدول الواقعة تحت نفوذ الاتحاد السوفيتي، فقد حرمت على نفسها هذه الإعانة، إذ رفض الاتحاد السوفيتي المشاركة فيها، ومنع دول الكتلة الشرقية من الاستفادة منها.
وتماما بحسب قاعدة "الإقراض والتأجير"، التي تنص على الدفع مقابل المساعدات المقدمة إلى الاتحاد السوفيتي خلال سنوات الحرب، جرت إعادة المعدات والأسلحة المقدمة إلى الاتحاد السوفيتي إلى أمريكا، وأصبحت دول أوروبا سوقا مربحة، ونوعا من المستعمرات الأمريكية.
كانت معظم المساعدات عبارة عن وقود ومنتجات ومعدات زراعية، ما يعني أن عائداتها مرجعها إلى أمريكا، ما وفر قوة دفع قوية لتنمية الاقتصاد الأمريكي.
الآن هناك العديد من مشاريع مارشال في الكثير من دول العالم؛ أوكرانيا في صفقة ترامب مع بوتين، وكذلك مشاريع أوروبا في أوكرانيا؛ فقد صرح المستشار الألماني أولاف شولتس في أكثر من مناسبة مؤخرا بأن الغرب يسعى إلى مساعدة أوكرانيا بـ"خطة مارشال للقرن الحادي والعشرين".
أما السودان فالصراع فيه بين قوى الاستعمار القديم (أوروبا) والاستعمار الجديد (أمريكا) ظاهر في الحرب العبثية بين الجنرالين البرهان وحميدتي، وقد تبنى هذا الاستعمار بطرفيه (أمريكا وأوروبا) أسلوب المساعدات الإنسانية كأداة للتدخل في شؤون البلاد، والآن بعد أن شارفت الحرب على الانتهاء جاؤوا بمشروع استعمار آخر يسمى بمشاريع الإعمار بعد الحرب. فقد بحث وزير المالية مع المبعوثة الأوروبية مساهمة أوروبا في إعادة إعمار السودان، وكذلك وكالة التعاون الدولي اليابانية (جايكا) تبدي رغبتها المشاركة في إعادة إعمار السودان، فقد التقت د. جبريل إبراهيم وتعهدت بإعادة تعمير ما دمرته الحرب. الجدير بالذكر أن وفد السودان الزائر لأوروبا في شهر آذار/مارس الماضي يواصل لقاءاته ويجتمع بمركز العمليات الإنسانية بالخارجية الفرنسية وبمسؤولي الشؤون الإنسانية بالخارجية النرويجية.
ويعد مركز العمليات الإنسانية من أكبر المؤسسات التي توفر الدعم للمنظمات الفرنسية العالمية العاملة في الحقل الإنساني في أجزاء متفرقة من العالم بجانب حشد وتوجيه الدعم لأماكن النزاعات، واستعرضت تلك الاجتماعات الأدوار التي تقوم بها المؤسسات ذات الصلة بالعمل الإنساني في السودان من تسهيل الإجراءات ومنح التأشيرات وأذونات التحركات والإعفاءات الجمركية الضريبية وبقية الإجراءات المرتبطة بالعمل الإنساني. وفي ختام حديثها دعت كل المنظمات الدولية وكافة الفاعلين في الحقل الإنساني العاملين في السودان إلى الالتزام بالتفويض الممنوح لهم والتقيد بضوابط وموجهات العمل الإنساني الحاكمة في السودان، ونوهت إلى تجاوز بعض المنظمات للتفويض الممنوح لها.
إن هذه اللقاءات والقوانين التي تتعلق بالاستثمارات ومشاريع الإعمار هي مشاريع استعمارية بغلاف (إنساني أو استثمار) بخصخصة الملكيات العامة كالكهرباء والمياه والمعادن أو الاستثمار في الطرق بقروض ربوية. "فالجبن المجان لا يوجد إلا في مصيدة الفئران".
إن البشرية اليوم تحتاج إلى النظام الصحيح الذي يقيم وزنا لكل القيم التي تحتاجها البشرية؛ الأخلاقية والإنسانية والروحية والمادية. وهو نظام الإسلام الذي تطبقه دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة قريبا بإذن الله، ويومها تسعد البشرية كما سعدت بالأمس.
ففي القرن التاسع عشر وبالتحديد بين عامي 1845 و1849، اجتاحت إيرلندا مجاعة كبيرة باتت من أهم الأحداث المحفورة في تاريخها وذاكرة أهلها عرفت بـ"مجاعة البطاطا"، وسميت بهذا الاسم لأنها حدثت إثر تلف محصول البطاطا الذي يعد الغذاء الرئيسي للسكان، وبلغت المجاعة ذروتها عام 1847 عندما اضطر الشعب الجائع إلى أكل البذور اللازمة للزراعة، قبل أن يتلف مجددا نصف المحصول في السنة التالية. وخلال المجاعة اضطر أكثر من مليون إيرلندي للهجرة إلى أمريكا، في حين لم يملك أبناء الطبقة الفقيرة سوى البقاء في ديارهم، في مشهد أشبه بالاستسلام للموت.
وكانت تلك المجاعة بمثابة نقطة تحول في تاريخ إيرلندا التي حكمت من وستمنستر مقر الحكومة البريطانية في لندن مباشرة من عام 1801 إلى 1922 كجزء من المملكة المتحدة، وغيرت المجاعة وآثارها بشكل دائم المشهد الديموغرافي والسياسي والثقافي للجزيرة حيث أسفرت عما يقدر بنحو مليوني لاجئ وانخفاض في عدد السكان دام قرنا من الزمان.
وبقيت المجاعة طويلا في الذاكرة الشعبية وتوترت العلاقات بين الإيرلنديين وحكومتهم البريطانية بسببها، وحملوها المسؤولية واتهموها بالتقاعس، ما حفز لاحقا بروز مشكلات عرقية وقومية بين الشعب الإيرلندي والحكومة البريطانية.
وفي تلك الفترة الزمنية التي شهدت ذروة المجاعة، امتدت يد العون للشعب الإيرلندي من حيث لم يتوقعوا؛ من الخلافة العثمانية التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، ونظرا لكون إيرلندا حينها واحدة من مستعمرات بريطانيا، فقد رفضت حكومة بريطانيا السماح لسفن المساعدات العثمانية بأن ترسو في ميناء دبلن، لذا رست بميناء دروهيدا الذي يبعد ثلاثين ميلا عن ميناء دبلن، وأفرغت حمولتها هناك.
وعقب انقضاء المجاعة، أرسل النبلاء وعامة الشعب في إيرلندا خطاب شكر للسلطان العثماني، وقد تسنى لوكالة الأناضول الاطلاع على نسخة منه.
ويقول الخطاب باختصار: "يتقدم الشعب الإيرلندي والنبلاء الموقعون على هذا الخطاب بجزيل الشكر والتقدير لجلالة السلطان عبد المجيد على كرمه وإحسانه تجاه الشعب الإيرلندي الذي يعاني المجاعة، كما يتقدم بالشكر الجزيل لجلالته على تبرعه السخي بألف جنيه إسترليني لتلبية احتياجات الشعب الإيرلندي والتخفيف من آلامه".
وفي أيار/مايو 2006 وخلال احتفال دروهيدا بالذكرى السنوية الـ800 لتأسيسها، قامت البلدية بتخليد ذكرى هذه الواقعة عن طريق تعليق لوحة شكر ضخمة على جدار مبناها القديم الذي استضيف فيه البحارة العثمانيون الذين أحضروا المساعدات أثناء المجاعة.
وتلقى الإيرلنديون تبرعات دولية من بلدان مثل فنزويلا وأستراليا وجنوب أفريقيا والمكسيك وروسيا وإيطاليا، بالإضافة للمنظمات الدينية وجمعيات الإغاثة، وعندما علِم السلطان العثماني بنبأ المجاعة قرر إرسال عشرة آلاف جنيه إسترليني إلى إيرلندا لنجدة شعبها، في المقابل لم ترسل فيكتوريا ملكة بريطانيا آنذاك للشعب الإيرلندي التابع لها سوى ألفي إسترليني.
ولكي تحافظ بريطانيا على صورتها طلبت من الحكومة العثمانية تقليل المبلغ إلى ألف جنيه فقط، فوافق السلطان العثماني على ذلك إلا أنه أرسل إضافة إلى المال ثلاث سفن محملة بالغذاء والأدوية والبذور اللازمة للزراعة.
هكذا كنا وهكذا يجب أن نكون في ظل الخلافة الراشدة الثانية القائمة قريبا بإذن الله.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع