لم يعُدْ جيش العراق - وكذا جيوش المسلمين اليوم - يَملِك من الأمر شيئاً، بحُكم تبعيَّة حكومته للكافر المستعمر أولاً، واعتمادهم في التسليح والتجهيز على غيرنا مِن صُناع السلاح ثانياً، ولأن تلك القوى المُسلحة ما وُجِدتْ - بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية - إلا لحماية الأنظمة المفروضة قسراً، وتنفيذ ما يُوكل إليها من مُهمات، كما لم تَعُد تلك الجيوش تحمل همَّ الأمة لتدرأ أخطار المعتدين عنها، ولا يدور في خلد قادتها حملُ الإسلام إلى العالم بالدعوة والجهاد.
وبعد تحرير أجزاء من مدينة الرمادي من يد تنظيم "الدولة" بهدف رفع المعنويات، وإعادة بعض الاعتبار لجيشٍ أريد له - بعد الاحتلال - ألا يتعدى حدود كونه حرسَ (شرفٍ) أو شرطة لحفظ الأمن داخليا، نقول بعد ذلك انطلقت التصريحات العاطفية من رئيس الوزراء (العباديّ) وغيره من أركان النظام بأن تحرير الرمادي سيكون بداية لانتهاء سيطرة "التنظيم" على مناطق شاسعة قَدِرَ على احتلالها في وقت سابق، يأتي في مقدمتها العمل الجادّ لتحرير محافظة نينوى وغيرها لكن دون ذلك الكثير من العوائق والصعوبات التي تقدح في جدية حكومة بغداد إن وجدت الجدية لديها أصلاً..!
ولْيكُنْ معلوماً أن تشكيكنا في جدية الحكومة وجيشها لإنجاز هذا الأمر مبنيٌ على صَمتها وتقاعسها عاماً ونصفَ العامِ، وانشغالِها بما لا يُجدي، بل والقيام بما يسهّل لتنظيم الدولة سيطرته على مناطق كثيرة، ذلك التنظيم الذي تلبَّس بلبوس الإسلام وزعمَ أنهُ يُحكِّمُ شرعَ الله تعالى زوراً وبهتانا، فأساء إلى الشريعة الربانية المطهَّرة، وشوَّه سُمعة الدين الحنيف بجرأتهِ المفرطة على إزهاق الأرواح وغصب الأموال وتخريب كل ما هو جميل.. تلك الجرائم النكراء التي جعلت منه داعية سَوْءٍ للإسلام والمسلمين، فكان بذلك عوناً لأعداء الإسلام ولزيادة مكرهم وتنكيلهم بالمسلمين.
فأنى لأمثال حُكام العراق خاصة، وحكام المسلمين عامة الجديةُ والشعور العالي بالمسؤولية، وهم خَدَمٌ لأسيادهم، يأتمرون بأمرهم، وينسِجون على مِنوالهم..؟! لأن الجديةَ إن لم تُوجد يجبُ اختلاقها أداءً للواجب وإبراءً للذمَّة، وأيُّ ذِمَّةٍ..؟ إنها ذِمَّةُ الحاكم الذي أراده اللهُ سبحانه حَكمَاً عدلاً بين الخصوم، وملجأً لكل مظلوم، وغوثا لكل محروم... قال رسول الله e: «مَن وَلِيَ مِن أمور المسلمين شيئاً فاحتجَبَ دُونَ خَلَّتهِم وحاجتِهم وفقرِهِم وفَاقتِهم احتجبَ اللهُ عنه يومَ القيامةِ دُونَ خَلتهِ وحَاجتِهِ وفَاقتِهِ وفَقرِه».
أما ما يتعلق بسرعة إحراز الانتصار على "التنظيم" في الرمادي - بعد صمت دام قرابة سبعةِ أشهرٍ أو يزيد - فإنَّ فيه الدليلَ الدامغَ على ما أسلفنا مِن تبعية حُكامنا للكفار وأنهم رهن إشارتهم.. إذ بعد طول انتظار بل إهمال لمركز المحافظة بحُججٍ واهية إذا بالنشاط والحيوية العالية يدُبَّان في الجسد الميِّتِ، وإذا بالكل ينشط لطرد (الدواعش) والتباكي على أهل الأنبار وعِظَمِ مأساتِهم..! وقد تم لهم بعضُ ما أرادوا من تحرير الرمادي، لأن أمريكا المجرمة أرادت ذلك فألقت بثِقَلِها، وساهمت بتركيز غاراتها الجوية، فحصد "الجنود الأشاوس" ثمار النصر، وليكن معلوما أن الأخبار تواترت أن كل مَن كان داخل الرمادي من مقاتلي "التنظيم" لا يتجاوز عديدهم (200 - 300) رجُل..! في مقابل قوات متكاثرةٍ من الجيش ورجال مكافحة الإرهاب والهندسة العسكرية، وآلاف رجال الشرطة الاتحادية والمحلية، مع إسناد رجال العشائر.. ومِن فوقهم طائراتُ التحالف الدوليّ وطيران الجيش العراقيّ، مع اقتران ذلك بإصرار دولة كأمريكا على إخراج "التنظيم" من المدينة. وأمريكا فعلاً قادرة على طرد التنظيم - لو أرادت - من العراق وسوريا معاً، ذلك أن تنظيم "الدولة" استُغل للأغراض التي أسلفنا، لكن الأمر مرتبط بجزار سوريا، والبحث عن بديل له مع شيءٍ من تجميل الصور ليَقبَلهُ شعبُ سوريا الأبيُّ المسلم من جهة، وتأمين كيان يهود من جهةٍ أخرى... الأمر الذي يقضي بضرورات المناورة والتسويف من أمريكا.
ولو افترضنا صِدْقَ (العبادي) في عزمِه على تحرير الموصل، فلا بد من إنجاز مهمات جسيمة قبل التوجُّهِ إلى هناك، ذلك أن محافظة الأنبار تضم (8) أقضيةٍ و(15) ناحية، يسيطر "التنظيم" على (6) أقضيةٍ هي: (القائم ورَاوة وعانة وهِيت والفلوجة والرُّطبَة) و(12) ناحيةً هي: (العبور والعبيدي والوليد والنُّخَيب والحَقلانيَّة وبَروانة والكَرمَة وكُبيسة والفرات والوفاء والصَّقلاوية وجُبَّة)، أي إن "التنظيم" يسيطر على (90%) من مساحة الأنبار تقريبا، أصعبُها الفلوجة لما فيها من أراضٍ زراعيةٍ وبساتين، وهذا غير صعوبات تنتظر الجيش في الموصل، وإليكم البيان:
1- تصريح وزير الدفاع العراقيّ في رَدهِ على سؤال حول تأخر عملية تحرير الموصل: "إن التأخر الحاصل في عملية الموصل لا بد أن يَسبِقها تحريرُ الأنبار حتى لا تكون نقطة انطلاقٍ للمُسلحين في شنِّ هجومٍ مُضادّ على القوات المهاجمة". (pukmedia).
2- قال رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية (حاكم الزامليّ): إن "معركة الموصل لن تكون قريبة، وإن التنسيق مع إقليم كردستان غير واضح، وهناك عقبة أخرى تتمثل بالتحالف الدولي وعدم عزمِه على التعاون مع القطعات العراقية، وهناك عدم وضوح للرؤية معه" (النور نيوز).
3- وبيَّنَ المحللُ السياسيّ يونس الموصلي، "أصبح واضحا أنه ﻻ يوجد أي نية لدى الحكومة العراقية بتحرير الموصل، أما القادة الأمنيون فالمهتمون منهم بتحرير المدينة يُعوِّلون على قرار أمريكا، ويتأملون خيراً بالرئيس الأمريكيّ المُقبل أي بعد سنة أخرى". (المصدر السابق).
4- قال الكولونيل ستيف وارن، المتحدث باسم التحالف الدولي: "الموصل ستشهد قتالا صعبا، نأمل بالطبع أن يتمكن الجيش العراقي من الوصول إليها وتطهيرها في العام 2016، ولكن يصعب التنبؤ بالمواعيد المحددة لمثل هذه العملية"، وعزا ذلك لما يلي:
أ- فهي ثاني أكبر المدن العراقية،
ب- وفيها تجمعات للسكان المدنيين بشكل أكبر بكثير". (عراق برس - 2/1/2016).
وليس ما ذُكِرَ آخر الصعوبات، فغيرها كثير، لكن قبل توجُّهِ الجيش إلى الموصل لا بد من التخلص من جيوب "التنظيم" القائمة في المدن المذكورة آنفاً لتأمين ظهرِهِ، وذلك بديهيّ. وقد يسهُلُ تحرير مدنٍ أخرى في الأنبار مما يتَّسم بسهولة أراضيه، ومثلها بعض المدن قرب الموصل كالقيارة والشرقاط.
وختاماً، فإن بالإمكان تحريرَ مزيدٍ من الأراضي في الأنبار بحسب ما أوضحنا، لكن يبقى - لما تم سردهُ - تحرير الموصل ليس بالأمر اليسير ولا القريب، وعليهِ فإن طرد تنظيم "الدولة" تماما من العراق لم يَحِنْ بعد، لارتباط ذلك بما يجري من أحداث في سوريا المجاورة، وما تقتضيهِ سياسة أمريكا الغازية المعتدية في المنطقة، وعسى أن يأذن الله القوي العزيز بِبُزوغ فجر الخلافة الراشدة ثانيةً على منهاج النبوة، ويضطلع الخليفة القادم - بإذن الله - بلمِّ شمل المسلمين في الدنيا، ويتحكم في البرِّ والبَحر، ليُعَزَّ الإسلام وأهله، ويُذَلَّ الشركُ وأهله، وليقطع يد كلِّ معتدٍ أثيم تُسوِّل له نفسه المَساسَ بشيءٍ من مصالحنا. ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾.
عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع