دخلت انتفاضة تشرين في العراق شهرها الرابع، بإصرار أكبر على مواصلة الحراك الرافض لما هو قائم، والمطالب باستعادة (الوطن) الذي اختطفته أحزاب السلطة الفاسدة، مهما كان الثمن، كما يقول المحتجون والناشطون، لا سيما بعد التضحيات الجسام التي قدمها الشباب المنتفض منذ الأول من تشرين أول/أكتوبر 2019م حيث تم قتل وجرح حوالي 23 ألف شخص، وقد باتت تلك التضحيات ديناً في رقاب إخوانهم المعتصمين في ساحات التظاهر في أغلب محافظات العراق. ونفذت تلك الجرائم بأساليب إيرانية مدبرة، وبأيدي مليشيات تدعي انتسابها للحشد الشعبي، تدرجت من القنص إلى الترويع والاختطاف فالقتل الشنيع، وما زال هذا المسلسل الإجرامي سارياً بتضامن وصمتٍ من الحكومة، بل وبتنفيذ من بعض أدواتها التي تتقاسم الأدوار مع تلك المليشيات، وهي جرائم منكرة لا يبررها شيء، وكان آخرها اختطاف محمد فاضل أحد أقوى الناشطين منذ بداية الحراك في ساحة التحرير وسط العاصمة. وقال مصدر أمني يوم الجمعة 10/1/2020 إن قوة أمنية قامت بتفريق المتظاهرين في محيط ساحة البحرية في البصرة، واعتقلت أعدادا منهم بشكل عشوائي، كما اغتال مسلحون مجهولون صحفيين في المحافظة نفسها، وليست الناصرية بأفضل حالاً من أختها. وقال غالب الشابندر أحد المهتمين بالشأن السياسي: "إن السياسيين والكتل (الإسلاموية) يحاولون الالتفاف على الحراك الشعبي، وهم مستعدون لإحراق العراق من أجل البقاء في مناصبهم". (الشرقية).
وقد وجه المحتجون نداءات لعامة الشعب طالبين المشاركة الفعلية في الاحتجاج وعدم الاكتفاء بالتأييد عبر مواقع التواصل لتحقيق وعدهم بمليونية ليوم الجمعةالفائتة في بغداد وسائر المحافظات لمرور 100 يوم على بدء الاحتجاجات. فلبى النداء مئاتٌ من الجماهير غصّت بهم ساحة التحرير وأمثالها في الوسط والجنوب. وجعل الجميع يهتفون بلسان واحد: نعم للعراق، وسحقا لأمريكا وإيران، مع رفضهم لجعل البلد ساحة لتصفية الحسابات، أو خوض حروب بالنيابة يكون الشعب وقودا لها. كما رفض طلاب الجامعات الاستجابة لنداء وزارة التعليم العالي بضرورة العودة لمقاعد الدراسة حتى تحقيق كامل مطالبهم التي خرجوا من أجلها.
ولا شك أن قتل أمريكا لسليماني عراب إيران، ومهندس سياستها الخارجية بعد سكوتها عن تحركاته القذرة ردحا من الزمن وبعد انتهاء (صلاحيته)، وتعدي شره إلى سفارتها في بغداد، وبصرف النظر عن دوافع الصدام الظاهري بينها وبين وإيران، فإنه خلط الأوراق - ولو لفترة محدودة - وحوّل الأنظار عن مظاهرات الحراك، خاصة بعد اقتحام السفارة الأمريكية. والآن تطرح تساؤلات حول مصير ذلك الحراك ومطالبه؛ فعلى مستوى الأزمة الحكومية سيصعّب مقتل سليماني بشكل أكبر إمكانية التوصل إلى توافق حول شكل الحكومة الجديدة ومن يترأسها، فمن كان من السياسيين مرناً قبل التصعيد الأخير سيصبح متزمتا الآن أكثر. وستعطل إجراءات الحكومة المستقيلة، وربما كانت - قبل ذلك - قاب قوسين أو أدنى من إعلانها استجابة للجمهور الغاضب، كترشيح بديل لرئيسها عبد المهدي، وتعديل قانون مفوضية الانتخابات المستقلة، وغيرها من الالتزامات للخروج من حالة الجمود التي أخلت البلاد من حكومة ترعى مصالح شعبها، وبات عبد المهدي مسلوب الإرادة. فأمريكا تبلغه بأمر ما، وإيران ضد ذلك، وهو ضائع بينهما. أما رئيس الجمهورية برهم صالح فما عاد ينبس ببنت شفة رغم ضياع مهل دستورية لإنجاز ما عليه، وهو الذي زعموا أنه حامٍ للدستور وحارسٌ لمصالح الشعب! قبحهم الله من إمعات لا خير فيهم.
لكن مقتل سليماني في الوقت ذاته فضح زيف تعاطف بعض السياسيين مع الحراك الشعبي بركوب الموجة، إذ سرعان ما انقلبوا عليه، بما فيهم البرلمان الفاشل، والمرجعيات الدينية إلى جوقات يعلن بعضها الحداد، وتهتف الأخرى باسم الهالك سليماني في مجلس النواب، وباتوا على النقيض من المطالب الحقة للمنتفضين. وفي هذه الحالة يبقى السيناريو الأقرب للواقع وبحسب الخبير الهاشمي هو أن يبقى عادل عبد المهدي على رأس حكومة لتصريف الأعمال في ظل صعوبة التوصل إلى توافق، ومن المؤكد أن بقاءه سيواجه برفض كبير من الشارع العازم على مواصلة الحراك.
وعن مواقف المحتجين بعد تلك الأحداث يقول حسن نواف أحد النشطاء: "إن الحراك سيتواصل، ولن يقبل المتظاهرون بالعودة إلى نقطة الصفر بعد كل الشهداء الذين قضوا". ويضيف: "ما يحدث بين أمريكا وإيران لا يعنينا. نحن نطالب بحكومة تمثلنا وبإصلاحات ومحاربة الفساد". (DW عربية).
وفي السياق ذاته، علق الناشط العراقي على فيديو نشره وزير الخارجية الأمريكي بومبيو يظهر مسيرات احتفالية كما راج في بعض وسائل الإعلام ولم تكن احتفالات خاصة بما حدث، بل "كل ما في الأمر هو أن بعض المحتجين المتواجدين أصلا في ساحة الاعتصام عند سماعهم الخبر فرحوا، وهذا طبيعي لأنهم يعتبرون أن سليماني هو أحد المعارضين لحراكهم. ولم يصل الأمر إلى مسيرات احتفالية. ومطالب الحراك واضحة وما زالت كما هي".
وهكذا تظل بلاد المسلمين ومنها العراق مسرحا مفتوحا لصراعات الدول الكافرة ومغامراتها، وليس للأمة إلا تحمل عواقبها الوخيمة على كره منها ونقمة على حكامها الذين رضوا بالتبعية، بل مكنوا الكافر المستعمر من رقاب أهلها لقاء مناصب ذليلة، وألقاب تلقى عليهم زورا وكذبا، وهم في الحقيقة عبيد لأسيادهم، لا شغل لهم غير تنفيذ الأوامر ولو على حساب الكرامة أو معاناة شعوبهم. لكن الأمل قائم بإذن الله تعالى أن يوفق العاملين المخلصين على مشروع دولة الخلافة الراشدة منقذ الأمة وحصنها الحصين التي ستضع حدا لعبث الكافرين وتذل كبرياءهم الزائفة، وما ذلك على الله بعزيز. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق
رأيك في الموضوع