جاء تكليف محمد علاوي برئاسة الحكومة الانتقالية بعد حوارات طويلة بين مقتدى الصدر، وهادي العامري، ثم في إيران، وتعززت برعاية محمد كوثراني ممثل حسن نصر الله والمسؤول عن حزب الله العراقي، الذي أظهر حماسة كبيرة لتكليف علاوي بتشكيل الحكومة الجديدة. ورغم أن علاوي كان متهما إبان حكم المالكي بسرقة أموال وزارة الاتصالات.. لكنه من الشخصيات المقربة من إيران وحزبها في لبنان. كما تسربت أنباء من داخل الأوساط السياسية مفادها أن طهران وجهت تهديدا لذيولها بأنها ستحرق العراق إذا ما جاء رئيس وزراء وفق مواصفات الثوار، فجاء الحل الوسط في اختيار علاوي. وقد سبق له أن قدم تسهيلات كبيرة في قطاع الاتصالات العراقي بحصول شركات عائدة للحزب المذكور على عقود بملايين الدولارات لسنوات تشكل العمود الفقري للموازنة المالية التي يعتمد عليها في دفع رواتب مقاتليه. (العرب).
وإن إيران وأزلامها لا زالوا يراهنون على إنهاء الاحتجاجات بشتى الوسائل من خطف للنشطاء، أو قتل للمتظاهرين باستخدام كل وسائل الموت. وإن كان ثم استنكار فخجول لا يرقى لحجم الجرائم المرتكبة ضد فتية مسالمين لم يطلبوا أكثر من حقهم في إيجاد بلد آمن يتسع للحاكم والمحكوم.
ولقد دأب الصدر على إعلان نفسه قائدا جماهيريا ولاؤه للشعب عبر تظاهراته المزيفة، وشعاراته بإخراج قوات الاحتلال الأمريكي، وإن لم تخف حقيقته على الناقد البصير. ثم جاءت دعوته الأخيرة لتظاهرة جديدة يوم الجمعة 24 كانون الثاني/يناير الماضي يشارك فيها أنصار الفصائل المسلحة الموالية لإيران، ودعا معهم المعتصمين للاشتراك فيها، لكن هؤلاء رفضوا تلك الدعوة - فكان ذلك هو القشة التي قصمت ظهره - فسقط قناعه الخادع، وبدا معدنه الخبيث. فما كان منه إلا أن أمر أتباعه برفع خيامهم من ساحة التحرير في بغداد. وغرد على حسابه في "تويتر" معاتبا المتظاهرين، ومتهما إياهم بالتعامل مع مدعومين من الخارج. ومهد الطريق لعمليات قمع حكومية استهدفت المتظاهرين في بغداد والبصرة ومدن أخرى. فردد المحتجون في ساحة التحرير وسط بغداد والبصرة ومدينة النجف مسقط رأس الصدر: "شلع قلع واللي قالها ويّاهم" وكان الصدر حينها موجودا في إيران. (سكاي نيوز والحرة).
وما إن أعطى مقتدى الصدر الضوء الأخضر لأتباعه بـقمع التظاهرات وإنهاء اعتصام الطلبة وقطع الطرق وإغلاق مؤسسات الدولة، حتى تمدد أتباعه "أصحاب القبعات الزرق" من بغداد إلى المحافظات الجنوبية، وبدؤوا بالاصطدام المباشر مع المحتجين، فاعتدوا عليهم في بغداد، وتوفي متظاهر متأثرا بجروحه بعد طعنه بسكين، ورصد نشطاء استخدام مليشيات الصدر الرصاص الحي والأسلحة البيضاء، لفض الاعتصامات بالقوة. (الحرة). وامتد العنف جنوبا لا سيما في محافظتي النجف وبابل مستخدمين الرصاص الحي، في وقت وصل عدد ضحايا الحراك الاحتجاجي منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حتى أواخر كانون الثاني/يناير المنصرم إلى نحو 30 ألف شخص. فقتل 7 متظاهرين في مدينة النجف أصيبوا بالرصاص في رؤوسهم أو صدورهم، وأصيب العشرات منهم بهجمات قادها من سموا "أصحاب القبعات الزرق" وفق مصدر طبي، وقاموا بإضرام النيران في خيم المتظاهرين المنصوبة في ساحة الصدريين، فثارت مطالبات بسحب أنصار الصدر من الساحة، وهاجمت المعتصمين في كربلاء مجموعات القبعات الزرق حاملين العصي والهراوات ومحاولين تكسير الخيم المنصوبة. (القدس العربي وفرانس 24).
وقال عضو المفوضية العراقية لحقوق الإنسان علي البياتي بحسب إحصائية لهم: "منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 حتى 30 كانون الثاني/يناير 2020 بلغ عدد الضحايا 536 قتيلا، منهم 17 منتسبا أمنيا، و23545 مصابا، منهم 3519 منتسبا أمنيا، و2713 معتقلا، منهم فقط 328 قيد الاحتجاز، و72 مخطوفا، أطلق سراح 22 منهم"، وأكد توثيق 49 حالة اغتيال. وكان المعتصمون في كل مرة يعودون إلى الساحات، وينصبون خيما جديدة مصرين على مواصلة احتجاجهم حتى تحقيق مطالبهم. (وكالات).
وسبق أن صدرت دعوات دولية ومحلية لوقف العنف ضد المتظاهرين السلميين، منها إصدار سفراء 16 دولة أوروبية إضافة إلى أمريكا بيانا مشتركا، أدانوا فيه "الاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن العراقية والفصائل المسلحة ضد المتظاهرين المسالمين، على الرغم من الضمانات التي قدمتها الحكومة". ودعا السفراء الحكومة إلى "احترام حريات التجمع والحق في الاحتجاج السلمي الواردة في الدستور العراقي" ومحاسبة المتهمين بجرائم قتل المتظاهرين. وأن هذه الدول متفقة على وضع حد للانتهاكات ضد المتظاهرين السلميين. ودعت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى وقف العنف ضد الاحتجاجات الشعبية. كما عبر سفير بريطانيا عن صدمته من أحداث العنف في النجف، ومثله سفير الاتحاد الأوروبي مع دعوات للحكومة المقالة أو القادمة بحماية المتظاهرين ووضع حد لترهيب المعتصمين. (موازين ولبنان 24).
وأما موقف الحكومة المقالة برئاسة عبد المهدي، أو الانتقالية برئاسة محمد علاوي مما يحصل، فكلاهما مصابتان بالشلل التام لإمساك المليشيات بزمام الأمور، بل حتى الجيش عاجز عن فعل شيء إذا جمعته الظروف مع تلك المليشيات. ولقد رأينا قريبا والعالم كله ما جرى من قتل وجرح وتنكيل بالشباب المعتصم دون أن يتحرك الجيش بفعل إيجابي، لأن تلك هي إرادة إيران وأحزابها العميلة. حتى محمد علاوي الذي داعب المتظاهرين بكلمات دافئة لم يوفق إلا لتهديدات جوفاء برفض تكليفه رئيسا للوزراء لا أظنها تتجاوز حدود مكتبه. فقد عاث الصدر ومريدوه في الأرض الفساد، رغم كونهم من أقوى المؤيدين لتكليف محمد علاوي وارتفعت أعداد القتلى والمصابين في وضح النهار، ولم يلجمه أحد، إذ بات الصدر مرشح إيران الأوحد بعد خفوت أصوات الزعماء خوفا من مصير كمصير سليماني. وفجأة ودون سابق إنذار أمر الصدر أشياعه بالانسحاب من ساحات التظاهر معلنا حزمة من التوجيهات الكهنوتية كمنع اختلاط الجنسين في خيام الاعتصام، وإخلاء الأماكن من المسكرات، وهو المدافع عن الديمقراطية الكافرة. وزعموا أن الانسحاب بضغط من المرجعية الشيعية، ودخول القوات الأمنية ساحات التظاهر. (الشرق الأوسط).
وأخيرا وليس آخرا، فما لم تقم دولة الخلافة الراشدة، ويرعى شؤون المسلمين حاكم صالح بتنفيذ شرع الله تعالى بصدق وحزم فلن تقف مآسينا عند حد ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع