يكاد الشباب المعتصمون ينهون شهرهم الرابع وهم صامدون في ساحات الاحتجاج في العاصمة بغداد، وسائر المناطق في محافظات وسط وجنوب البلاد، متمسكين بمطالبهم، غير آبهين بقمع السلطات الحامية لمنظومات الفساد التي تجذرت واشتد عودها، بل بات الإبقاء عليها من أربابها وسدنتها قضية حياة أو موت. الأمر الذي يسلط الضوء على مماطلة حكومة تصريف الأعمال، وتعمد المراوغة والمراهنة على الزمن لعل ما يقاسيه المنتفضون من قسوة البرد، وقلة الزاد يجعل الاستمرار في نهجهم أمرا عسيرا. ولذا نرى اشتداد التنافس بين المنتفضين والقوى الأمنية هو سيد الموقف. فكلما ازداد زخم المؤيدين للحراك، ارتفعت وتيرة البطش بهم بشتى الوسائل لحملهم على إنهاء الاحتجاجات.
وكان الحدث الأبرز في الأسبوع الماضي ما أعلنه المحتجون في محافظة ذي قار من مهلة للحكومة أمدها أسبوع واحد تنتهي يوم الأحد 19/1/2020 لتستجيب لمطالبهم الشعبية. وقد أيدت سائر المحافظات بما فيها بغداد فرض تلك المهلة، وأعلنوا عن خطوات تصعيدية نهاية المهلة في حال لم تستجب الحكومة، تمثلت بقطع الطرق الرئيسية الرابطة بين محافظات الوسط والجنوب، والطريق الدولي المؤدي إلى بغداد، لعرقلة نقل المنتجات النفطية، ومنع وصول البضائع من ميناء البصرة إلى وسط وشمال البلاد، فضلا عن إعادة غلق الدوائر الحكومية التي افتتحت في وقت سابق، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام منازل نواب البرلمان.
ولا بد من التذكير بحجم التضحيات جراء إصرار المعتصمين على مواقفهم، حيث قاربت 27 ألفا من القتلى والجرحى، يضاف إليها اختطاف المئات من الناشطين في ساحات التظاهر، وسط صمت مطبق من السلطات الحكومية. وقد استشرى العنف والبطش من القوى الأمنية غداة غلق طريق محمد القاسم الدولي فسقط العشرات من القتلى والجرحى جراء إطلاق الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع الذي تسبب بحالات اختناق شديدة، وهو ما أكدته منظمة العفو الدولية، وتحققت منه عبر شهادات ومقاطع فيديو. (الجزيرة).
وعد محامون وحقوقيون أعمال العنف تلك خطوة جديدة لإنهاء الاحتجاجات، إذ قوبلت "مهلة وطن" التي أعلنها المتظاهرون بسياسة العنف المفرط نفسها ضدهم. وقال عضو مفوضية حقوق الإنسان العراقية علي البياتي "... لا يوجد ما يبرر قتل المتظاهر إلا عند الضرورة القصوى والدفاع عن النفس، والتي يجب أن تكون أيضا مسبوقة بإجراءات أخرى رادعة"، مضيفا "أن غياب جهود داخلية عراقية حقيقية للتحقيق في جرائم قتل المتظاهرين، ومحاكمة المسؤولين عن ذلك، سيفتح المجال أمام الجهات الدولية أكثر للتدخل، باعتبار أن قضية السيادة لأي دولة تعتمد على توفيرها الحماية لمواطنيها". (الجزيرة نت).
ولا يسعنا إهمال الإشارة إلى "مليونية" مقتدى الصدر التي دعا أنصاره إليها يوم الجمعة 24/1 والتي شدد فيها على ضرورة رحيل القوات الأجنبية من العراق، وإلغاء الاتفاقيات الأمنية مع أمريكا، وإلا سيتم التعامل معها على أساس أنها دولة محتلة! ولا يخفى ما يبطنه الصدر من محاولة التغطية على الاحتجاجات المناهضة للحكومة، والتي كانت بمثابة تحد لسيطرة الفصائل المسلحة على السلطة. ورغم حرص الصدر على إخفاء حقيقة تعاونه مع إيران، وتنفيذه لخططها، وسعيه ليبدو كزعيم ثوري يراعي مصالح شعبه، ليبقى كبديل محتمل للوجوه السياسية التي فقدت ثقة العراقيين بها. لكن افتضح أمره وبانت سوءته بعد انتهاء فقاعته الفاشلة "المليونية"، ولا سيما حين أمر أنصاره - بشكل مفاجئ - بمغادرة ساحات الاعتصام في خطوة الهدف منها إضعاف الحراك الشعبي، وتقديم خدمة ثمينة لإيران والمليشيات الحليفة لها التي عجزت عن وقف الاحتجاجات المطالبة بحكومة عراقية جديدة من خارج دائرة الفاسدين. ولعل ما حصل من شطحات الصدر هو من مكر الله جل وعلا بالمنافقين والعملاء أمثاله الذين تساقطت أقنعتهم تباعا، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. ثم ما كان من قادة الحراك في بغداد والبصرة ومواقع أخرى إلا أن صبوا جام غضبهم على الصدر متهمينه بخيانة المحتجين مقابل تلقيه وعدا من طهران بتولي رئاسة حكومة بغداد المقبلة. جاء ذلك في بيان صادر عن "اللجنة التنسيقية" للمتظاهرين، وصرحوا فيه بقولهم: "لم نخرج بفتوى دينية، ولم نخرج بتغريدة صدرية فلا يراهن على نفاد صبرنا ونهاية ثورتنا. ركب موجتنا فركبناه، وحاول استغلالنا فتجاوزناه". وأضاف البيان "باقون في الساحات حتى تحقيق أهداف الثورة ولن نخذل دماء الشهداء ولن يكونوا ورقة على طاولة المتاجرة السياسية كما فعل الصدر".
وقد داهمت قوات الأمن ساحتي الخلاني والتحرير، مقر الاعتصام الرئيس في بغداد، فجر السبت 25/1 وحاولت تفريق المحتجين فيها، وفي مدن جنوبية وأطلقت الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي ما أدى إلى إصابة أكثر من 30 شخصا، وذلك بعد ساعات فقط من قول الصدر إنه سينهي مشاركة أنصاره في المظاهرات المناهضة للحكومة، لكن المحتجين أوقفوا تقدم القوات الأمنية باستخدام الحجارة وقنابل المولوتوف. (وكالات أنباء).
ورغم ما يجري، فقد فشل رئيس العراق برهم صالح في إعلان بديل لرئيس الحكومة المستقيل منذ شهرين عبد المهدي للخلاف القائم بين الأحزاب الحاكمة، وبين الجماهير الغاضبة. وزعم أحد رؤساء الكتل في البرلمان أن صالح على وشك إعلان اسم البديل بعد اتفاقه مع تلك الأحزاب وبشروط المنتفضين.. لكن شيئا لم يحصل لحد الآن. (الخليج أون لاين).
وهنا يكمن السؤال حول ما إذا كانت أمريكا راغبة في حل الأزمة القائمة، وحسم الصراع هنا لتفرغ منه، وتوجه اهتمامها لجبهات أخرى أشعلت هي فيها النيران، وإن لم تهتم يوما لمعاناة الشعوب. وأيا كان خيارها، فإن الكفار هم سبب ما يلقاه الناس من شقاء وعنت لا يرفعه سوى أن يرعى شؤونهم حاكم رباني بتطبيق شرع الله تعالى فيهم، ويضع نصب عينيه إخلاء البلاد من آثار المستعمرين الفكرية والمادية، ويكافح عملاءهم وأذنابهم فتخلص البلاد لأهلها.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع