رغم حالة الاستعصاء وانسداد الأفق لإيجاد مخرج من أزمات العراق، التي ألقت بالبلاد في هوة سحيقة جراء تسلط طغمة فاسدة على مفاصل الحكم أحالت الحياة إلى جحيم يصعب العيش فيه، فدمر اقتصاد البلاد، واستأثرت بخيراته ذيول إيران، وتقلصت فرص العيش الكريم فثار الشعب منتفضا ضد تلك الأوضاع، ورافضا لرموز السلطة الحاكمة جملة وتفصيلا ومطالبا بحكومة من رحم الشعب ترعى شؤونه بالعدل والمساواة - ولو بحدوده الدنيا - وتوقف الأمر على هذا النحو منذ قرابة خمسة أشهر أو أكثر قليلا. جراء استماتة الطبقة الحاكمة للبقاء في السلطة حرصا على إدامة مكاسبها غير المشروعة، متوسلة بكل وسيلة لا أخلاقية بالترهيب للمنتفضين، والقتل الشنيع والخطف واستخدام شتى أدوات الموت جهارا نهارا دون وازع من دين أو إنسانية حتى أصبح عدد القتلى والجرحى والمعوقين والمغيبين بالآلاف.
لكن ثبات أولئك الشباب في ساحات التظاهر على مطالبهم الحقة، متمسكين بسلمية أعيت الأعداء، وحازت إعجاب العالم - ولو بالتعاطف المعنوي - وحققت نجاحات لا يستهان بها، فأجبرت حكومة عبد المهدي على الاستقالة، وحملت البرلمان الفاسد على تشريع قانوني الانتخابات ومفوضيتها المستقلة، وأسكتت أصوات السياسيين، وتراجعت قوة إيران وانكشف ضعفها تجاه عنجهية أمريكا، وافتضحت تهديداتها الجوفاء لا سيما بعد مقتل عرابها قاسم سليماني، وبان عجزها عن إسناد ذيولها في العراق، فأصابهم الوهن والإحباط مما كانوا يعولون عليه من أنواع الدعم.
وبعد قرابة شهرين ونصف على تكليف محمد علاوي وتجاذب الأحزاب والكتل السياسية قبولا ورفضا، استطاع اختيار وزراء مستقلين بزعمه، وبعيدين عن المحاصصة الحزبية، لكنه فشل في أن يحظى بثقة البرلمان الذي أخلّت بنصاب أعضائه بعض الأحزاب الشيعية خوفا من خسارة فرصهم في الحكومة، ونكاية بشريكهم مقتدى الصدر الذي رابهم سعيه للاستحواذ على معظم المناصب، وتحكمه في المشهد السياسي.
وبات على رئيس الجمهورية برهم صالح المباشرة في اتخاذ الإجراءات اللازمة والسريعة لإنقاذ البلاد، باختيار مرشح بديل خلال 15 يوما وفق الدستور، ويكون شخصية مستقلة للخروج من الأزمة، سواء رضيت به الأحزاب أم لم ترض، وتجاوز ما قيل عن شخصية توافقية غير جدلية فذلك محض هراء. فالشارع رافض أصلا لتلك الأحزاب، ولا معنى للسعي في إرضائها، وقد رأينا كيف أفشلوا محمد علاوي. وسيفعلون الشيء نفسه في المستقبل، ولن تشكل أي حكومة مستقلة ما داموا باقين على مواقفهم. وليس التباطؤ في صالح أحد، فالبلد مقبل على أزمة أو أزمات اقتصادية ستزيد الأمر سوءا، يضاف إليها وباء "كورونا" الذي انتشر في الأرض انتشار النار في الهشيم، وهو لا يقل خطرا، وينبغي الإسراع لإيجاد مؤسسات صحية بعيدة عن الفساد تضع حفظ حياة الناس نصب أعينها.
أما ما قيل عن حل البرلمان، والدعوة لانتخابات مبكرة، فقد ذكر أحد خبراء القانون: "أن حل البرلمان يتم بالأغلبية المطلقة لأعضائه، أو بطلب من رئيس الوزراء، وموافقة رئيس الجمهورية، الذي عليه الدعوة لانتخابات عامة في البلاد خلال (60) يوما من تاريخ حل البرلمان". (بغداد اليوم).
لكن لفقهاء القانون رأيان متناقضان، يقضي أولهما بأن "ليس لرئيس الوزراء الحالي عبد المهدي طلب حل البرلمان من رئيس الجمهورية، لأنه رئيس حكومة تصريف أعمال يومية، وأن ذلك من صلاحيات رئيس وزراء جديد حائز على ثقة البرلمان". (موازين نيوز). في حين يرى ثانيهما أن "عبد المهدي لا يزال الرئيس الرسمي للحكومة، وأن استقالته غير قانونية ولا دستورية لأنه قدمها لرئيس مجلس النواب، والصواب تقديمها لرئيس الجمهورية. وبإمكانه إصدار جميع القرارات، ومنها حل البرلمان، وتقديم مشروعات القوانين إلى مجلس النواب، وحتى قانون الموازنة". (الصباح الجديد).
وأيا كان الصواب، فلا بد من توفر المناخ المناسب لإقامة الانتخابات شريطة المصادقة على قانوني الانتخابات والمفوضية الجديدين، إذ لم يحسم أمرهما بعد، واستتباب الأمن بالقضاء على الفصائل المسلحة التي تغولت، وتعاظمت قوتها مقارنة بقوة الجيش والشرطة النظاميين، فضلا عن تداخل الصلاحيات والمسؤوليات، وتوزع ولاء الجميع بين الوطن وإيران. وإلا كيف يتصور أن تكون الانتخابات نزيهة وبعيدة عن التزوير، وكيف سيأمن الناخب على نفسه، وقد رأينا قصور القوات النظامية في حماية المتظاهرين مما ارتكبته المليشيات بحقهم. وبالتالي، فما المرجو والحالة هذه من انتخابات جديدة، تعلق عليها الآمال في حل الأزمة السياسية في العراق، إذا كانت الفوضى سيدة الموقف، والحكومة مصابة بالشلل؟!
وهناك أمر آخر أشد خطورة من كل ما يجري، ألا وهو موقف أمريكا من الحراك الشعبي الذي تدعمه إعلاميا، وتعمل على تقويضه في الخفاء بالتنسيق مع حليفتها إيران وأذرعها المهيمنة بقوة السلاح. وما العقوبات المفروضة على إيران والتهديدات المعلنة ضدها إلا مناوشات مفضوحة قد ملها المراقبون؛ ذلك أن أمريكا لا يخدم مصالحها حكومة تسعى لإزاحة الطبقة السياسية التي فرضتها هي على شعب العراق، ولا أن يتسنم مناصبها أمثال الشباب المنتفض ضد الفساد والمفسدين، العازم على إقامة العدل وبناء المؤسسات، وإعادة الهيبة للدولة، والمتوقع منهم حتما أن يطالبوا المحتل الكافر بمغادرة البلاد.
وختاما، يحسن القول إنه إذا توفرت شروط إقامة انتخابات مبكرة، وكان قانونها قد صيغ صياغة قانونية محكمة، وخلا من الثغرات، والفقرات الغامضة - كحال الدستور أس المصائب - فعندذاك يرجى أن تدب العافية في الجسد المهشم شيئا فشيئا، وينحسر الشر رويدا رويدا، وتنتظم الأمور، ويحس الشعب أنه يحيا في بلد آمن، يحكمه القانون. ويتحقق القول: "إن بعض الشر أهون"، لأننا نرى الديمقراطية والنظام الرأسمالي يحملان في ثناياهما الظلم والقصور، والعجز عن إسعاد الناس وتوفير الحياة الطيبة الكريمة التي أرادها ربنا سبحانه بإنزال شريعته الغراء النقية، وهي لا تتحقق إلا بتطبيق أحكام الإسلام في جميع مرافق الحياة ضمن نظامه الخاص نظام دولة الخلافة التي تنشر العدل والخير والأمان لكل رعاياها مسلمين كانوا أم غيرهم، عجل الله تعالى بقيامها. ﴿ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع