في عالم تحكمه المصالح لا يمكن للسياسي الواعي إلا أن يرى حقيقة المواقف الدولية وما هي أسباب هذه المواقف وأهدافها التي لا يمكن أن يراها بقية الناس العاديين ممن لا يهتمون بالسياسة وألاعيبها، وممن يمتلكون ذاكرة السمك فينسون المواقف السابقة التي أوصلتهم إلى ما هم عليه الآن، وينساقون مع الدعاية الكبيرة التي ليست سوى دخان كثيف يغطي على الأهداف الحقيقية لكل موقف دولي، وهذا أمثلته كثيرة وهو ما يسمى بالخداع السياسي وخصوصاً في ظل النظم الرأسمالية الديمقراطية الحالية التي تبيع الوهم للشعوب وتخادع الجميع في سبيل تحقيق مصالح الرأسماليين الجشعين.
هذا المدخل مهم حتى نفهم حقيقة ما يجري في الشام هذه الأيام وحتى يعلم أهل الشام وخصوصاً الثائرين على نظام التعفيش ونبش القبور، هذا النظام الدموي الحاقد المجرم الذي سطر اسمه مع أعتى المجرمين في التاريخ، وحتى يعلم أهلنا في سوريا أن ألاعيب السياسة بين الدول لا تحكمها العواطف والأخلاق وإنما تحكمها المصالح والمنافع، فلا تقيم وزناً لما قام ويقوم به النظام السوري من إجرام بحق الشعب السوري ونحن على أبواب الذكرى التاسعة لانطلاق الثورة وما صاحبها من آلام وخذلان من القاصي والداني ومن تآمر من القريب والبعيد.
لقد انطلقت الثورة السورية بهدف واضح عبر عنه الثائرون بشعارهم (الشعب يريد إسقاط النظام) ليدشن حقبة جديدة ملؤها الأمل بالتغيير الجذري الكامل لحقبة سوداء في سوريا والمنطقة، هذا التغيير خرج يطالب به المسلمون في دول عدة بدءاً من تونس ومروراً بمصر وليبيا واليمن، وليس انتهاءً بالسودان والجزائر والذي سيمتد إلى باقي البلاد الإسلامية قريباً بإذن الله.
ولذلك رأينا تداعي المنظومة الدولية كلها للقضاء على ثورة الأمة في سوريا دون باقي الثورات لما للشام من بُعد عقائدي فهي درة التاج ومركز القرار والانبعاث، ورأى الجميع كيف تواطأ الجميع على كسر شوكة الثورة وتدخل الدول الواحدة تلو الأخرى على مواجهة الثورة من طرف وتخذيل الثوار من طرف آخر، ورأى الجميع كمَّ المؤتمرات والاتفاقيات التي عقدت لأجل هذا الهدف، وكل ذلك في سبيل حرف الثورة عن هدفها في إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه، ليس بدايةً في جنيف ووصولاً إلى أستانة وفي النهاية إلى اتفاق سوتشي المشؤوم بين روسيا وتركيا والذي كان وما يزال يُراد له أن يكون البوابة لتنفيذ الحل السياسي الأمريكي بالحفاظ على النظام وعدم إسقاطه مع تغيير بعض الوجوه الكالحة، وهذا ما رفضه أهل الشام من البداية وأصروا على متابعة ثورتهم لإسقاط النظام، وتبعاً لذلك تم رفض اتفاق سوتشي شعبياً وحصلت أعمال سياسية كبيرة عبرت عن هذا الرفض، فقامت هذه الدول بتغيير تكتيكاتها في سبيل جعل اتفاق سوتشي مطلباً شعبياً عن طريق اجتياح المناطق المحررة وتراجع الفصائل أمام مليشيات النظام والطيران الروسي مما سبب تهجير مئات الآلاف وسقوط مناطق تعد قلاعاً للثورة في أرياف إدلب وحلب، مما استدعى التدخل التركي وما رافقه من ضجةٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ وخصوصاً تصريحات المسؤولين الأتراك عقب المجزرة التي ارتكبها الطيران الروسي بحق الجنود الأتراك، وأنهم سيتدخلون ضد مليشيات الأسد، وبدأت القوات التركية بضرب النظام ضربات موجعة أدت إلى سقوط الكثير من ضباطه وعساكره وتدمير آلياته وأرتاله وحتى إسقاط طائراته، مع وعود من النظام التركي بالثأر لمصرع جنوده، ترافق مع تصريح الرئيس التركي أردوغان بقرب انتهاء مهلة شباط التي وضعها لمحاسبة نظام أسد على جرائمه في كلامه الهاتفي مع الرئيس الإيراني روحاني: "الحل السياسي هو السبيل لإنهاء الأزمة السورية"! هذا التصريح الذي يختصر حقيقة الموقف التركي بعيداً عن العواطف والمشاعر، ويؤكد المؤكد أن النظام التركي مستمر في السير مع باقي الجوقة الدولية في إنهاء الثورة والبدء بعملية الحل السياسيبعد أن يصبح اتفاق سوتشي مطلباً شعبياً، وإن ما جرى من قصف وقتل لمليشيات النظام يأتي في إطار تنفيذ اتفاق سوتشي الذي يعتبر تنفيذه مقدمة للمباشرة بالحل السياسي الأمريكي.
والسؤال هنا ماذا سيجري بعد جلاء غبار المعارك الحاصلة الآن؟ وهل النظام التركي صادق في وعوده لأهل الشام؟ وإلى أين يسير مركب الثورة في ظل هذه المتغيرات؟
إن الحقيقة غالية الثمن لذلك يتم حراستها بسيل كبير من الدجل والكذب، وحتى بأعمال ظاهرها مساعدتنا وباطنها من قبله السيطرة على قرارنا وتقييدنا أكثر بما يريده أردوغان، لذلك كان علينا أن نقول الحقيقة ولو كانت مُرةً بطعم العلقم؛ إن ما يجري على الأرض حالياً هو تحويل سوتشي في عيون ضحاياه من مؤامرة منبوذة إلى حل مطلوب، فالمعارك الحالية سقفها حدود سوتشي وتطبيقاته من الحليفين الروسي والتركي، ورغم أننا في الشام كنا وما زلنا نأمل أن يكون تدخل تركيا لصالح الثورة حقيقةً للوصول إلى هدفها بإسقاط النظام الدموي في دمشق، ولكن ما نيل المطالب بالتمني أو بالانجرار خلف الدعاية المغرضة، لذلك فإن مركب الثورة يسير في منعطفات خطرة جداً إن لم يتحرك المخلصون وهم قادرون على الإمساك بدفة القيادة واستعادة القرار، وهذا مناط بأهل الشام أنفسهم القادرين على تحرير قرارهم من براثن الدول ومنظوماتها.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
بقلم: الأستاذ أحمد معاز
رأيك في الموضوع