يعتبر مصطلح الدولة العميقة مصطلحا معاصرا لم يُعرف إلا أواسط إلى أواخر القرن العشرين وظهر إلى العلن في أوائل القرن الواحد والعشرين وخاصة بعد ثورات ما يسمى الربيع العربي، ولكنه كواقع كان له وجود قديم قدم الدول.
ففي كل منظومة تجد هناك رأسا تلتف حوله مجاميع ترتبط مصالحها معه وتدور حيث دار فتتحرك حين تستشعر أي خطر يهدد وجودها أو يؤثر على مصالحها وخاصة مع أصحاب التغيير الجذري، فتبرز هنا إمكانيات بل أفكار شيطانية لتحرفهم عن أهدافهم أو تثنيهم عنها أو على الأقل لتعرقل سيرهم فتجدهم يتهمونهم تارة بالإفساد وتارة بالسفاهة وبالجنون والسحر ...إلخ.
وقد عرض لنا القرآن الكريم صورا من واقع هؤلاء، فتجد من يخاطب فرعون بقوله: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾، وفي ناقة صالح: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، إلى ما هنالك من آيات تبين واقع هؤلاء، ولعلنا في هذه العجالة نعرج على قصة السامري التي تبين ضرر وخطر المنظومة التي يراد تغييرها إن كان هناك قبول لبعض جزئياتها مهما دقت تفاصيلها وصغر حجمها تجدها تنخر نخر السوس فتهدم بنيانا وتصدع أساسات.
كان السامري رجلا من بني إسرائيل ولكنه من رجالات فرعون وجزء من دولته العميقة والذي خرج نفاقا مع موسى عليه السلام حين لاحت نهاية فرعون. فكان ممن نجا مع موسى وسار مع بني إسرائيل وصولا لغياب موسى بميعاده مع رب العزة، فجاء دور هذا السامري الذي مثّل قناة إعلامية مضادة حينها وصنع عجلاً وسوّق له أنه إله بني إسرائيل، فاستطاع بذلك حرف مسار قومه عن رب العزة وتصديع البنيان. ففتنهم وأضلهم، ولما رجع موسى وضع حدا للانحراف بأمر من الله فانتهى السامري نهاية فيها معتبر لكل ضال مضل، وأما صنيعه وأداة إضلاله (العجل) فحرقه ونسفه في البحر وأبطل كيده وأعاد للفكرة نقاءها. وفي هذه القصة معتبر ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وإذا انتقلنا إلى ثورات الأمة بدءا من تونس إلى ليبيا فاليمن وصولا لثورة الأمة في الشام، نجد أن جميع ما سبق تم احتواؤه والالتفاف عليه وتغطية الدولة العميقة بحلل وزركشة مخادعة حتى إذا حانت الفرصة وسنح الوقت عادت للواجهة فظهرت وعلت علوا كبيرا والتفّت على مطالب المنتفضين وأعادتهم إلى حظائر الأنظمة الوظيفية الفاسدة المفسدة فذهبت التضحيات أدراج الرياح وانتكست الشعوب وفقدت الأمل بالتغيير كحال الذين قال الله عنهم: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ كل ذلك حصل مع الثورات، ولم تسلم من هذر المكر الكُبّار حتى ثورة الشام، لذلك كان لا بد من وضع ثوابت لها تكون جهاز مناعة تحصنها من الاختراق والالتفاف، فانبرى لذلك حزب التحرير وأسس لها ثوابت سماها ثوابت ثورة الأمة في الشام وكان أولها: إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه، وشدد على هذا الثابت أنه لا يجوز القبول بأي جزئية أو أثر أو متعلق لهذا النظام ومنظومته والحذر الحذر من ذلك كيلا تذهب التضحيات وتباع الدماء ويعود النظام المجرم بغطاء آخر ويعاد إنتاجه وتنخذل الأمة (لا قدر الله) بأحد أهم معاقل أملها في التغيير، أرض الشام المباركة.
لذلك وجب على أهل الشام أن يحصنوا ثورتهم بهذه الثوابت من الضياع وأن يعرفوا كيف قادتهم القيادة السياسية الحالية (تركيا) بِسَوْقها قادات الفصائل الذين رهنوا قرارهم لها حتى أوردتنا المهالك وبلغت القلوب الحناجر وبات إسقاط النظام من الماضي. فالواجب أن يستعيدوا سلطانهم وأن يسير الكبار ويقودوا الصغار متحصنين بالثوابت سائرين حتى إسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام، فـ"لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا جهالهم سادوا"، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا...
بقلم: الأستاذ عامر السالم
رأيك في الموضوع