لقد خلق الله الخلق وجعل لكل شيء خاصية وفي كل شيء سنّة كونية لا تُخرق إلا بمعجزات أيد الله بها رسله لإثبات نبوتهم. وقد كانت حادثة الإسراء والمعراج من الخوارق التي أعجزت مشركي مكة وكانت دليلاً على نبوة سيدنا محمد ﷺ.
أما سعيه ﷺ لإقامة دولة في المدينة فلم يكن خارقاً من الخوارق، وإلا لما استمر ثلاث عشرة سنة ولَتَمَّ ذلك في ليلة واحدة أو دون ذلك كما حصل في الإسراء والمعراج. ولكنه عمل على السنن الكونية في إسقاط دول وإقامة دول على أنقاضها، حيث قام ﷺ بخطوات عملية حثيثة من غير توانٍ ولا ادخار جهد، خطوة تتلوها خطوة وتتبعها خطوات، وكل خطوة لها دلالة توزعتْ بين ما يجب فعله، وكانت جزءاً من الطريقة، أي الكيفية الملزمة، وبين ما يمكن التغيير فيه حسب الواقع والزمان والمكان، فكانت هذه هي الوسائل والأساليب.
وقد تحمّل ﷺ في طريقه المشاق والصعاب، ليأتي من يأتي بعده سائراً على منهجه صابراً في طريقه، يعلم أنه إن سلك سبيل الرسول ﷺ فسيصل إلى ما وصل إليه بجهد بشري وبعمل مادي بعد التوكل الكامل على الله سبحانه وتعالى.
ومن السنن الكونية في إقامة الدول أن يسير صاحب المشروع بمن ينقاد له من الوجهاء والذين يتقدمون أقوامهم ويسير الناس خلفهم، يسير بهم نحو الغاية المرجوة والهدف المنشود، إذ إن للوجهاء دوراً مهماً في كل زمان ومكان. والمقصود بالوجهاء هنا هم السادة والأشراف وعِلْية القوم. لهم دور في تقدم الناس وتمثيلهم والتحدث باسمهم وتوجيههم.
وقد لفت القرآن الكريم النظر وأشار إليهم في أكثر من سياق، فقد ذكرهم باسم الملأ حيناً فقال: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ﴾، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وقد نجده ذكرهم بغير مسمى حينا آخر فقال: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾. وقال: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾. والنقيب عند أهل اللغة والتفسير هو العريف على قومه، غير أنه فوق العريف وهو الأمين الضامن والشاهد على قومه، ونجده قد قال: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ﴾، أي أصحاب فهم وعقل ودين وبصيرة، حتى رسول الله ﷺ كان قد خاطب من جاء لبيعته في منى بقوله: «أَخْرِجُوا إِلَى مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ» أي من يمثلونكم.
وقد كان للوجهاء نصيب وافر فيما عمله ﷺ منذ بدء دعوته وحتى إقامة دولته. ففي أحد أهم المواقف أثناء طلب النصرة استفاد من ميزات أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والذي لازم رسول الله ﷺ في الدعوة إلى إيصال الإسلام لسدة الحكم، وقد كان رضي الله عنه يعلم بالأنساب وأشراف القبائل، وهذا مكّن الرسول ﷺ من تخيّر القبائل التي يمكن الاتصال بها وعرض الإسلام عليها وطلب النصرة منها للإسلام من أجل إقامة الدولة الإسلامية، فيتقصد وجوه هذه القبائل. فقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "لما أمر الله رسوله ﷺ أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدماً في كل خير، وكان رجلا نسابة - أي يعرف في أنساب القبائل - ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم"، قال علي: "وكان أبو بكر مقدماً في كل خير، فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله ﷺ فقال: "بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم".
وهذا أبو ذر الغفاري أسلمت بإسلامه غفار.
وموقف آخر فعله مصعب بن عمير رضي الله عنه سفير رسول الله ﷺ حين كسب للدعوة أعيان المدينة، كأسيد بن حضير وسعد بن معاذ والذي أسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل من بني الأوس. وهكذا...
وبالانتقال إلى ثورة الشام المباركة، التي خرجت على أعتى نظام عرفته البشرية والذي كان قد ضيع رؤوس القوم من قبل، ولم يبقِ كبيراً في قومه، وصنع لنفسه إمّعات يدورون معه حيث دار، قامت الثورة ودخلت أنظمة الكفر على خط سيرها، وأغرقوها بالمال القذر وصنعوا قيادات تأتمر بأمرها وتسير بسيرها، وفصائل نحّى قادتُها كبارَ القوم وصار الأمر لصغارهم بل لصغرائهم، فأوصلوا الثورة لمستنقعات الذل والمهانة وألبسوها ثوب الخسران.
فكان لا بد، حتى تعود الأمور إلى نصابها وتعود الثورة سيرتها الأولى خالصة لله، قائدها سيدنا محمد ﷺ، من أن يعود كبار القوم للواجهة ويأخذوا دورهم المنوط بهم في قيادة الناس، حشداً للطاقات وجمعاً للفرقة، مستنيرين بصحابة رسول الله، سائرين على هديه، متخذين قيادة سياسية واعية ومخلصة تحمل كل مقومات النجاح. وها هو حزب التحرير فهو أهل لقيادة الأمة لكل خير، باعتباره بفضل الله الجهة التي تملك مشروعا كاملاً ومفصلاً مستنبطاً من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس معتبر. عندها تكتمل الحلقة المفقودة في ثورتنا، ونتابع المسير لإسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام فتختصر التضحيات وتنتهي المآسي ويؤخذ بالثارات ويُنتقم للأعراض التي انتهكت والدماء التي أهرقت، وينعم العالم، وليس فقط المسلمون، في ظل الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة بنعمة العيش تحت ظل أحكام الإسلام.
فالعمل العمل والجد الجد، فالنصر حليف المؤمنين والعاقبة للمتقين، والله لا يضيع أجر العاملين.
رأيك في الموضوع