قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن أنقرة تعمل على تحديد موعد وكيفية الاجتماع مع النظام السوري على مستوى القيادة، مشيرا إلى عدم وجود جدول زمني واضح في الوقت الحالي، "فقط إعلان الإرادة"، على حد تعبيره. وأوضح فيدان، أنه خلال اتصالاته مع النظام السوري، وجد أنهم منفتحون على التفاوض، ولم تُبلّغ أنقرة بأي شروط مسبقة حتى الآن. وفيما يتعلق بالمنظومة الفصائلية، أشار فيدان إلى أن "صنع السلام مع المعارضة هو مشكلة النظام السوري". أما بخصوص الشروط المسبقة، فقال فيدان: "خذوا لاجئيكم ودمروا الإرهابيين في أرضكم وأنا سآخذ جنودي. دعنا نرى العلامات التي تشير إلى أنك ستنشئ هيكلاً إدارياً لن يرسل لي لاجئين مرة أخرى ولن يشكل تهديداً أمنياً". وأكد فيدان أنه عندما يتم طرح الشروط، فإن لديه المزيد من الشروط أيضاً.
تأتي تصريحات وزير الخارجية التركي في ظل سيل متواصل من تصريحات المسؤولين الأتراك بدءاً بأردوغان الذي تحدث سابقا وفي عدة مرات عن تطبيع العلاقات مع نظام أسد، ووصل به الحال للحديث عن إعادة العلاقات العائلية مع طاغية الشام، في رسالة واضحة لجميع الأطراف أن كلامه السابق عن إسقاط الأسد قد مضى وقته بعد أن استحوذ أردوغان على قرار الثورة عبر القيادات الفصائلية وقرار الائتلاف الوطني والحكومات التي أنشأها شمال وشمال غرب سوريا، ما دفعه للمجاهرة بخططه المرحلية القادمة التي دقت ناقوس الخطر عند أبناء الثورة، حيث انطلاق الحراك الرافض للمصالحة والتطبيع رغم محاولات مسؤولي النظام التركي تبرير الموقف العلني الجديد بخصوص نظام بشار، وسعي الماكينة الإعلامية الموالية له والتابعة للمعارضة السياسية التي يحتضنها والقيادات الفصائلية إظهار أن الأمر خاص بالدولة التركية ولا علاقة له بشأن المعارضة السورية، في خطوة تبريرية مكشوفة، فالتطبيع بين النظامين السوري والتركي هو كارثة على الثورة في ظل انصياع أغلب هياكل الثورة السياسية والعسكرية للنظام التركي الذي سيضعهم على طاولة المفاوضات مع طاغية الشام، وهو ما يعني تسليمه المناطق المحررة عبر قيادات المنظومة الفصائلية البارعة في عمليات التسليم من درعا إلى الغوطة وحلب وأرياف حماة وإدلب، وهي تعرف الخطط القادمة وتسعى لتخدير حاضنة الثورة عبر رفع الصوت برفض التطبيع والمصالحة لدفع الناس للركون لها والانضمام لها كما حصل سابقا ومن ثم تسليم المناطق، ولكن الفارق هذه المرة أنه ليس هناك باصات لنقل الرافضين إلى مناطق أخرى في ظل إقفال الحدود التركية والجدار الحدودي الذي بناه النظام التركي لمثل هذا اليوم!
النظرة السياسية العميقة للموقف الحالي لثورة الشام المباركة أنها تمر بمرحلة استعصاء على جميع الأطراف في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، وهي على مفترق طرق منذ فترة طويلة فإما الاستسلام لطاغية الشام استجابة لرغبة أمريكا وأداتها الفاعلة حاليا النظام التركي، وإما متابعة الثورة عبر فك ارتباطها وخلع القيادات الفصائلية المرتبطة واستعادة قرار الحرب وفتح الجبهات وخلط الأوراق؛ وهذا بالذات يلزمه عمل سياسي جبار لتجميع جهود الرافضين للاستسلام وصنع قوة دافعة منهم لإجهاض مشاريع الاستسلام والخنوع التي يديرها النظام التركي عبر قيادات فصائلية أتخمت بالمال السياسي الحرام وأصبحت أدوات لا تملك أي قرار وخصوصا الكاذب الجولاني الذي قال يوما بأنه يمتلك قرار السلم والحرب والحقيقة أنه لا يمتلك سوى قرار الاستسلام والتسليم، أما قرار الحرب فقد سلّمه لتركيا وأمريكا منذ وقت طويل ووضع نفسه أداةً في خدمة مشاريعها في المنطقة!
في ظل اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية نهاية هذا العام تتحدث وكالات الأنباء والمحللون السياسيون عن سعي الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإيجاد حل سياسي في سوريا وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، من دون ترجمة هذا النهج إلى مواقف ضاغطة على الأطراف المتداخلة في سوريا لإيجاد حل نهائي، لأن الحل النهائي الذي تريده أمريكا لم ينضج بعد وقد انصرفت إلى ملفات دولية تعتبرها ذات أهمية أكبر وخاصة بعد أن اطمأنت نسبيا إلى وضع عميلها في دمشق بعد إخراجه من عزلته الدولية.
الحقيقة أن الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الفعلي في سوريا تمارس مكرها المتواصل ولم تتوقف منذ انطلاق الثورة المباركة في الشام وتستعمل لذلك جميع الدول والمنظمات الدولية، ولكن مكرها موجه إلى أهل الشام أصحاب الثورة، فمن مكرها القرارُ 2254 الذي صاغته هي بنفسها وضغطت في مجلس الأمن كي يوافق أعضاؤه عليه، واعتبرته ورقة العمل النهائية للحل في سوريا، وانطلقت تمارس ضغوطها على الثورة للقبول به عبر إيران وحزبها اللبناني ومليشياتها الطائفية من عراقية وأفغانية وباكستانية، ورغم ذلك لم تنجح بسبب إصرار أهل الشام على إسقاط النظام المجرم رغم الفاتورة الكبيرة جدا التي دفعوها في سبيل التخلص منه، ما اضطرها لإدخال روسيا وأيضا لم تنجح بل كاد أهل الشام أن يهشموا جيشها لولا تدخل تركيا؛ الورقة الأمريكية الأخيرة، التي استطاع نظامها بالمكر والخداع تحقيق ما عجز عنه الإيراني ومليشياته والروسي وطائراته.
ما يميز السياسة الأمريكية تجاه الثورة أنها تكاد تكون خفية، بل إنها تخرج بمواقف يظن بعض الناس أنها تقف معهم ومع قضيتهم كما حصل في تصريحها الأخير بعد خروج الثوار رفضا للتطبيع التركي مع طاغية الشام، فقد كان تصريح الخارجية الأمريكية أنهم لن يطبّعوا مع نظام أسد قبل أن تظهر استجابته في ملف حقوق الإنسان ووصول المساعدات لمستحقيها على كافة الأراضي السورية، وهذا عين ما نقوله، وقد طار به بعض السياسيين للتدليل على أن موقف أمريكا أفضل من موقف النظام التركي؛ ولم يعلم المسكين أن التصريح موجه للنظام التركي أن عليك التهدئة وترتيب أوراقك داخل أروقة الثورة قبل متابعة عملية التطبيع، وعدم الاندفاع بقوة لأن الحاضنة قد تتفجر في وجهك وتخسر الكثير.
إن الحراك الشعبي الثوري أصبح الأمل الوحيد للثورة في إعادة ترتيب صفوفها لخوض النزاع ما قبل الأخير لتحرير قرار الثورة، وقد أثبت القائمون عليه وعيا منقطع النظير في إدارة دفته وتمدده إلى الشمال بشكل واسع بعد الصعقة الكبيرة التي تعرض لها الثائرون من الجانب التركي، ودفع الكثيرين للالتحاق بالحراك المطالب برفع الوصاية التركية عن الثورة وفتح الجبهات على النظام المجرم، وما زال يسير بخطا ثابتة في إدلب رغم كافة المعوقات التي يواجهها، وخصوصا محاولات بعض المنخرطين فيه تبريده وتخفيف احتقانه رغم الخطر الكبير الذي يحيط بآخر معاقل الثورة، وتتم معالجة الأفكار الخاطئة للبعض في تقييم الموقف العام، وهو ما يستدعي تجلية وتوضيح المواقف من كافة الأفكار والمفاهيم الخاطئة للسير بالحراك ومن ثم بالثورة نحو بر الأمان عبر استعادة قرارها العسكري الذي هو أخطر ما تمت مصادرته من أهل الثورة بذرائع وأسباب واهية، واستعادته في هذه المرحلة من قبل الحاضنة الشعبية والانطلاق به نحو فتح الجبهات على النظام المجرم سيكون له عظيم الأثر على المراحل اللاحقة التي يُراد فيها إطفاء جذوة الثورة وحرق النفس الثوري، وتكريس الخنوع والهوان بين أبناء الثورة للقبول بما تمليه مصالح الدول على حساب مصلحة أهل الشام وعلى رأسها إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه.
معركة أهل الشام هي في حقيقتها معركة استعادة القرار الذي بدوره سيكون مقدمة لإزالة أنظمة الحكم الجبري في بلاد المسلمين، ولذلك ترى الجميع متفقين على إجهاض الثورة وإن اختلفوا في الأساليب، ويبقى أهل الشام بيضة القبان وأصل المعركة، ورفضهم وقبولهم هو الذي يحدد سير هذه المعركة ونتائجها بغض النظر عن طول أمدها وتكالب "الأصدقاء" عليها قبل الأعداء، ولكن ما ظهر في الفترة الأخيرة من ارتفاع سقف التحدي يبشر بخير قادم يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ويوجه رسالة قوية لحملة السلاح في الثورة وخصوصا القادة أن عودوا إلى أمتكم واستجيبوا لمطالبها وإلا فلن ينفعكم داعم ولا ضامن، فالطريق الذي تسيرون به ستكون نهايته الخزي في الدنيا قبل الآخرة، والثورة تتحضر لتعيد سيرتها الأولى ولن يستطيع أن يقف في طريقها أصحاب المصالح الخاصة والمشاريع الضيقة، فالشام ستعود قريبا بإذن الله عقر دار الإسلام.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً﴾
رأيك في الموضوع