لا يزال الصراع محتدما في العراق بين جموع المتظاهرين منذ مطلع تشرين أول/أكتوبر من العام الجاري، بإصرارهم على التغيير وبشكل غير مسبوق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، وبوتائر متصاعدة في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية حتى باتت ساحات الاعتصام تضيق بالقادمين إليها، وبين منظومة الحكم وأحزابها الفاسدة وأذرعها العسكرية المهيمنة على مقاليد الحكم، والمستأثرة بمكاسب وثروات غير مشروعة - هي أساسا ملك للشعب العراقي - دون أن ينال الشعبُ نصيباً منها. ولقد كان للسياسات المتبعة أكبر الأثر في انتشار الفقر والتخلف والمرض بين غالبية أبناء الشعب، فضلا عما سببته من انقسام مجتمعي على أساس الطائفة والدين والعرق، تبعا لنظام (المحاصصة).
ولقد عانى العراق ولا يزال من مشكلات اقتصادية ضخمة برغم أنه من بين البلدان الأغنى بالنفط عالميا، وبالرغم من المداخيل الكبيرة من تصديره، لكن تلك الواردات لم يكن لها دور يذكر في تقليل مظاهر الفقر أو تطوير البنى التحتية أو إيجاد فرص عمل؛ كما أن نسبة البطالة ارتفعت إلى أكثر من 42% من عدد السكان حسب اللجنة الاقتصادية في البرلمان العراقي، التي قدرت في أيلول/سبتمبر 2019 عدد العاطلين من حملة الشهادات الجامعية بنحو 5 ملايين شخص، الأمر الذي لم يعد الشباب قادرين على السكوت عليه. (الجزيرة).
وإن المراقب ليرى ثباتا وإصرارا شديدين من المتظاهرين على مواقفهم التي أعلنوها بضرورة إسقاط الحكومة بكل مؤسساتها، وبرلمانها الفاشل، وتعديل الدستور، وتشريع قوانين عادلة للانتخابات، ومفوضية مستقلة حقا تتيح الفرص أمام الشباب الذي يتوق لإحداث تغييرات جوهرية تنهض بالبلاد وبناه التحتية، ما يجعل من العراق بلدا ذا مكانة بين مثيلاته في المنطقة والعالم. الأمر الذي حدا بأحزاب السلطة للسير في خطين واضحين - كمعقل أخير - لتدارك ضياع وشيك لمكتسباتها، فلجأت أولا للمماطلة بحجة تعديل القوانين انسجاما مع ضغط الشارع، وثانيا باتخاذ البطش والقوة المفرطة ضد المتظاهرين بالقتل والتعذيب، والترويع وخطف الناشطين لحملهم على إنهاء احتجاجهم، رافقه صمت حكومي أو رضاً به بدليل غياب الإجراءات الحازمة لمنع تلك الممارسات رغم وجود القوى الأمنية، فارتفع عدد الضحايا لما يقرب من 500 قتيل، وما يربو على 20 ألف جريح بينهم من أصيب بإعاقة دائمة. وقالت منظمة العفو الدولية إن السلطات العراقية "فشلت في وضع حد لاعتقال الناشطين والصحفيين والمتظاهرين، ما يظهر تسامحها مع تلك الانتهاكات". لكن تلك الممارسات القاسية فشلت، ولم تزد المعتصمين إلا إصرارا وثباتا على مواقفهم، بل إن ساحات الاحتجاج اكتظت بالقادمين الجدد.
وفي ظل هذه الأوضاع الأليمة يطل علينا سياسيون لا يعرفون غير الديمقراطية الفاشلة، يسعون لتسويق إنجازاتها كحل لمشاكلنا وما هي في الحقيقة إلا ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾، ومنهم من يعول على نجدة المجتمع الدولي لإنقاذنا، وما دروا أن كل ما حل بأمة الإسلام كان من عمل أيديهم. فهذه بريطانيا وفرنسا وألمانيا اكتفت بإدانة استهداف المتظاهرين السلميين في العراق، فوجهت بيانا تحذيريا شديد اللهجة لرئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي مطالبة إياه بضمان إبقاء قوات "الحشد الشعبي" بعيدا عن مواقع الاحتجاج، فهل حرك ساكنا؟! أما سفير الاتحاد الأوروبي في العراق مارتن هوث فقد علق على الأحداث التي حصلت في ساحة الخلاني وجسر السنك وسط بغداد، التي راح ضحيتها نحو 25 شخصا وأصيب أكثر من 120 آخرين، مع إحراق خيام المتظاهرين، علق قائلا في تغريدة على حسابه في "تويتر"، إنه "غاضب ويشعر بالحزن العميق على جرائم القتل"، متسائلا: "من هم المخربون الحقيقيون؟".
وأما أمريكا الكافرة، فإنها أهملت ما تمليه عليها الاتفاقية الأمنية مع العراق واكتفت بحض السلطات العراقية على إجراء انتخابات مبكرة والقيام بإصلاحات انتخابية، داعية إلى إنهاء أعمال العنف ضد المتظاهرين التي خلفت مئات القتلى، وأعربت عن قلقها (العميق)! وقد سبق أن أقر مجلس النواب الأمريكي قانونا بالأغلبية يمنع بموجبه زعزعة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق، ويشمل جميع من يحاولون العبث داخل البلاد أو خارجها ممن يتلقون دعما أجنبيا بعقوبات أمريكية صارمة، ويدعو القانون الرئيس ترامب إلى فرض عقوبات على من يهدد السلام والاستقرار... فهل أمن الناس بفضل ذلك القانون؟! وإذن، لا وجود لما يسمى بالمجتمع الدولي عند حلول أزمة في بلد ما إلا بقدر ما يحققه تدخله من مصالح لدوله خاصة.
وأما حكومة عبد المهدي المستقيلة، فإنها باتت حكومة تصريف للأعمال اليومية، ولحين تشكيل حكومة جديدة تحظى بثقة البرلمان الجديد أيضا. ولا تزال اجتماعات البرلمان مستمرة لمناقشة تعديلات أجريت على قانون الانتخابات الجديد بما ينسجم وشروط الشارع المنتفض، وسيتم التصويت عليه الشهر المقبل، وتبقى الكتل السياسية متأرجحة بين الضغط الجماهيري وإراداتها الخاصة. ولكن تم التصويت، الخميس 5/12 بالإجماع على قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ونقل عن رئيس البرلمان محمد الحلبوسي قوله: "إن أعضاء مفوضية الانتخابات الجديدة سيكونون من القضاة، وسيتم اختيارهم وفق قرعة". (الحدث). هذا من جهة الحكومة المرفوضة سلفا من الجماهير الغاضبة، وأغلب الظن أنهم سيرفضونه.
وفي الختام، فإننا نرى أن الطريق لا يزال شاقا قبل الوصول إلى تحقيق المطالب الشعبية، ولا يتصور انسحاب الطبقة الفاسدة التي جثمت على صدور الشعب 16 عاما ببساطة. لأسباب ليس آخرها غياب القيادة الجماهيرية الواعية، أو تشبث المنادين بالخلاص بالمبدأ الرأسمالي، والحلول الديمقراطية المناقضة لواقع الإسلام وعقيدته وأحكامه التي يدين بها العراقيون. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن على أمة الإسلام بما يحقق لها سعادة الدنيا والآخرة بالاحتكام لشرعه الحنيف الذي فيه الخير والعزة والكرامة.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع