إن تكرر الأحداث المستفزة لمشاعر المسلمين يقصد منه بلا شك صناعة الإحباط، وتثبيط الهمم، وانتشار اليأس فيهم، مثل أن ترى حكام المسلمين يُهرعون للعزاء في ملكة بريطانيا تلك الدولة الاستعمارية التي آذت المسلمين، وارتكبت في حقهم أقذر الجرائم، أو أن ترى سفير أمريكا في السودان يمثل كأنَّه عصفور وديع أو حمامة سلام فيزور الأسر والشيوخ والقرى ويتفقد الفقراء، ويعقد الاجتماعات، ويحضر المؤتمرات، ويصرح كأنه حاكم فعلي للبلاد، والكل يعلم أن أمريكا هي صانعة الشرور والجرائم في العالم خاصة في البلاد الإسلامية.
لا شك أن هذه الدول الاستعمارية تصنع الأزمات والكوارث في بلادنا بمساعدة الحكام العملاء وتضع الخطط والمؤامرات، وتُحكم القبضة الأمنية والسياسية ما يجعل الوضع سيئاً والحياة صعبة، فيتسرب من ذلك إلى نفوس البعض شيء من اليأس والإحباط، وقد يقول قائل هل بعد هذا سيتنزل علينا نصرٌ؟!
إن النصر مِنْحَة وهبة يهبها الله لعباده المخلصين، يعجل لهم النصر أو يؤخره لحكمة يعلمها هو سبحانه، يبتلي به المؤمنين ويميز بتأخره المخلصين الثابتين عن المنهزمين والمستسلمين، ولقد جرت سنة الله تعالى أن النفس البشرية تستعجل الخير ولا تصبر على الأذى ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾. وكثيراً ما تكون السرَّاء بعد الضرَّاء، ويكون الرخاء بعد البلاء، وهناك أمور كثيرة يظنها الإنسان خيراً وهي شر، وأخرى يحسبها شراً وهي خير، قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾.
لقد واجهت الأمة الإسلامية هزات عنيفة في تاريخها، بل ما زالت تتكرر هذه الهزات؛ فكانت في السابق هجمات التتار، وكانت الحروب الصليبية، وقد قيَّض الله تعالى للأمة رجالاً مخلصين، وحّدوا صفوفها فانتصرت على أعدائها. واليوم كذلك تتكرر الهزات خاصة بعد هدم الخلافة، فدخل الاستعمار بلادنا، واحتُلت فلسطين، وقُتِّل أهلُها وهُجِّروا، وأصبح الأقصى أسيراً في يد يهود يدنسونه ليل نهار، واغتصبت النساء في البوسنة والهرسك، وسُلبت أرض الشيشان، وتجرأ الهندوس عبدة البقر على المسلمين، وفعل البوذيون الوثنيون بالمسلمين الروهينجا الأفاعيل، وقتل النصارى المسلمين بوحشية في أفريقيا الوسطى، مع تدمير العراق، وأفغانستان، وفصل جنوب السودان...إلخ، بتواطؤ رهيب من حكام المسلمين وعلمائهم، وأتباعهم.
صحيح أن هذه الأحداث المستفزة والهزات العنيفة والمؤلمة أصابت بعضاً من أبناء الأمة فزلزلتهم ورجَّت الأرض تحت أقدامهم، ففتَّت في عضدهم، مع الحرب الفكرية والثقافية التي تنفذها الدول الاستعمارية ضد المسلمين، حرب التشكيك في الأدلة الشرعية والنَيل من كثير من أحكام الله تعالى، وتلويث عدد من المفاهيم الإسلامية، مع ترويج أفكار الكفر السقيمة، والتضييق على من يدعو إلى تطبيق أحكام الإسلام في الدولة والمجتمع وملاحقته وأذيته في نفسه وماله وأهله، فأوهنت هذه الحرب الشعواء من عزائم البعض، فمنهم من بدَّل وغيَّر وركب موجة الغرب، ومنهم من آثر السلامة والركون إلى الدنيا فلزم الصمت والسكوت، ومنهم مَنْ أصيب باليأس والإحباط فاستبعد أن تهنأ الأمة بفتح مبين ونصر قريب، وبقي نفرٌ كريم من أبناء الأمة ينافحون ويكافحون بالحق، ثابتين كالطود الأشمّ، لم تهزهم الأحداث، ولم تغيرهم الفتن، ولم تكسر إرادتهم المحن والإحن، وقد تحقق فيهم قول النبي ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». متفق عليه.
نعم لقد عمَّ الخراب بعد أن فقدت الأمة راعيها وقائدها، وسلطانها ودولتها، بعد أن أصبحت بلا خليفة، بلا قائد، ولا إمام، وصدق الرسول ﷺ القائل: «الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
إن حكام المسلمين اليوم لم يكونوا أئمة ولا قادة ولا رُعاة على الأمة، بل كانوا بلاءً وشقاءً، وصدق الرسول ﷺ «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ؛ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» الإمام أحمد مسنده.
نعم، لقد كانت أمة الإسلام تقود الجيوش وترفع رايات الإسلام، فتدك الحصون وتصنع الرجال، وترعب الأبطال الأقوياء، تنشر الخير بين ربوع العالم، يستغيث بها الضعفاء فتغيثهم، ويستجير بها المستجيرون فتجيرهم، نعم، إنها أمة الإسلام، ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وأَتَتْهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ، وَهُوَ آخَذٌ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَلْقَاك الْجُنُودُ وَبِطَارِقَةِ الشَّامِ، وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: "إِنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ، فَلَنْ نَبتغِي الْعِزَّ بِغَيْرِهِ". المستدرك وغيره.
حتماً وقطعاً أننا سنعود إلى هذا الواقع المشرِّف قريباً بإذن الله سبحانه وتعالى مستبشرين بوعده وببشرى رسوله ﷺ، لذا كان لا بد من العمل بأقصى طاقة وقوة فنعالج الإخفاقات ونتطلع إلى البشريات ونصبر على الابتلاءات، ولا محالة أن النصر سيأتي بوقت يعلمه الله سبحانه، وما علينا إلا التلبس بالعمل لإقامة حكم الإسلام في الأرض، على أن يدرك كل واحد منا موقعه؛ هل أدى ما عليه من واجبات وقام بما طلبه الإسلام منه، أم أنه ركن إلى الدنيا فهزته المواقف، ورجته الأحداث فتقهقر عن العمل لنصرة الإسلام وتوقف عن حمل الدعوة لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؟!
يتبع...
* مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع