يتابع العالم كله ما يحدث في ولاية الجزيرة وسهل البطانة، من مجازر مروعة، وآلام ووضع إنساني كارثي وحالات تسمم، وكوليرا، حيث تصدرت الأخبار ما يحدث في مدن وقرى مثل السريحة، الهلالية، ورفاعة، تمبول، ود الفضل، وغيرها كما سبقتها ود النورة والتكينة...الخ على سبيل المثال لا الحصر. حيث إن أعدادا ضخمة من جثث الأبرياء تتناثر هنا وهناك وتهجير لمئات الآلاف من النساء والأطفال وكبار السن، ونزوح قرابة 500 قرية... وبحسب العربية في 13/11/2024م فقد تجاوز عدد القتلى في مدينة الهلالية وحدها الـ450 شخصا وما زالت المجازر والآلام مستمرة.
فقد اتهمت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، روزماري ديكارلو، حلفاء الأطراف المتحاربة في السودان، بـ"تمكين المجازر" التي أودت بحياة أكثر من 24 ألف شخص، وخلفت "أسوأ أزمة نزوح في العالم"، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الألمانية. (العربية 14/11/2024م).
والغريب واللافت للنظر هو صمت قادة الجيش وعدم إعطائهم التعليمات للجيش للتحرك لإيقاف هذه المجازر! وقد ذكرت تقارير أن الحكومة تتجه في منحى مواصلة التفاوض عبر منبر جدة الأمريكي، فقد ذكرت سودان تربيون في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2024م، أن مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة، الحارث إدريس، قدم الثلاثاء، اقتراحات جديدة لتنفيذ إعلان جدة، بين الجيش وقوات الدعم السريع بضمان آلية وطنية إقليمية.
كان هذا الأمر يمكن أن يكون منذ بداية الحرب خاصة أن الرافض لمبدأ التفاوض هو قائد الجيش والآن هم حسب التقرير أعلاه يقبلون بمبدأ التفاوض فلماذا المماطلة والرفض منذ بداية الحرب قبل أن تتوسع دائرة الأوجاع والمجازر والآلام؟!
إن التفاوض هو أحد أدوات الفكر الديمقراطي (للطبطبة على المشاكل) لا علاجها، وهو أداة خربة عاجزة تسكِّن الألم ولا تعالج الجراح وأسباب الآلام!
ومنذ دخول المستعمر إلى بلاد الإسلام لم يطبق عليها سوى النظام الديمقراطي العلماني وعقيدته الحل الوسط، برغم تضليل وكذب بعض الحكام الذين وصلوا الحكم عبر واجهات وشعارات إسلامية ولكنهم في حقيقتهم لم يكونوا إلا إحدى أدوات الدول الاستعمارية، ولعل أكبر شاهد ودليل في الشأن السوداني أن الرئيس البشير الذي رفع شعار الإسلام كذبا وتضليلا يعترف في نهاية الأمر، في 17/11/2017م أن انفصال الجنوب كان بضغط أمريكي.
وقد استمرت مفاوضات نيفاشا لسنين، دُجن فيها أهل السودان، وتغير فيها الخطاب الإعلامي، ليقبل الناس أولا بمبدأ الجلوس والتفاوض، الذي كان مرفوضا، وذلك بعد إراقة شلالات من الدماء وازهاق مئات الآلاف من الأرواح، هذا غير آثار الحرب الكارثية من نزوح ولجوء، ثم قبلوا بعدها بالتنازل عن الجنوب، وعن فكرة إقامة الشريعة، وهذا الذي حدث. وقبل أن ينفصل الجنوب نشبت حرب دارفور في 2003م، واشتعلت جنوب كردفان، والنيل الأزرق، وشرق السودان، فلم تحسم أمريكا بنيفاشا هذه الملفات عند التفاوض، بل جعلتها قضايا منفصلة، فأعطت الحكومة الشرعية للحركات المسلحة، بالاعتراف بها والجلوس معها فكان اتفاق جوبا 2020م، وإلى اليوم لم تتوقف هذه الحروب.. بل تزداد الحركات والمليشيات وتبارك الحكومة إنشاءها وتدريبها وتسليحها!
وعندما اندلعت الحرب في 15 نيسان/أبريل 2023م كان أغلب أهل السودان يحسبون أنها لن تأخذ سوى أيام معدودة، ولكن كانت هناك دعاوى قوية لاستمرارها فرفعوا شعار (بل بس) بالرغم من انسحابات الجيش، وسقوط المدن، واستمرار الدمار إلى اليوم. ساعد في ذلك الفيديوهات لقوات الدعم السريع وهم يرتكبون الجرائم الفظيعة في حق أهل البلاد الأبرياء!
ودوماً يكرر الفريق أول البرهان قائد الجيش أنه لن يجلس للتفاوض إلا بعد شروط منها خروج قوات الدعم من بيوت الناس والمرافق العامة، وكذلك إرجاع المسروقات إلى أهلها. بالرغم من أن هذا الشرط الأخير تعجيزي، فكيف تعاد المسروقات وقد هربت خارج البلاد أو حرقت، ودمرت، أو قتل ناهبوها في المعارك؟!
مع تكرار رفض البرهان استمرت جرائم قوات الدعم في المدن والقرى من قتل واغتصاب ونهب وتهجير وتدمير للممتلكات والبنى التحتية، والمثير واللافت للنظر أن البرهان لم يحرك قوات الجيش لصد هذا العدوان المتكرر، والجيش له مقدرات عالية وخبرة لينفذ ذلك، ولكن ظل حبيسا ولم (يفك له اللجام). فالذي يمنع الجيش من صد العدوان، هو نفسه من يطلق يد هذه القوات، حتى يحقق مبتغاه من الحرب وهو القضاء على الاتفاق الإطاري، والقضاء على المدنيين عملاء بريطانيا وهو هدف أمريكي استراتيجي.
لقد أرهقت الحرب كاهل أهل السودان فأصبحوا بين لاجئ أو نازح فقير ومعدم أو مشرد من ولاية إلى أخرى يبحث عن لقمة العيش. مع هذه الضغوطات سيقبل الناس بفكرة التفاوض بعد أن تحققت أجندة الحرب فقد قضي على الاتفاق الإطاري وأضعفت قوى الحرية والتغيير ومؤيدوها، واختفت (مدنياااااااااو) وتحولت إلى (عسكريااااااااااو) وبدل المواكب الرافضة للحكم العسكري فُرضت المقاومة الشعبية المسلحة، وبعد شعار (العسكر الثكنات) أصبح العسكر هم الحكام بالقوة ودون منافس!
نعم تحققت أغلب الأجندة من حرب 15 نيسان/أبريل ولكن المؤلم أنهم لا يحققون هذه الأجندات إلا بإراقة الدماء الحرام وإزهاق الأرواح البريئة لكي يقبل الناس اليوم بما رفضوه سابقا.
إن النظام الديمقراطي الرأسمالي الاستعماري نظام مجرم ينفذ جرائمه بميكافيلية مفرطة فالغاية فيه تبرر الوسيلة.
أما في الإسلام فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، فالوسيلة تأخذ حكم الغاية، فالوسيلة إلى الحرام حرام، ولا ضرر ولا ضرار، بل لا يجوز اقتتال المسلمين من أجل إقامة نظام مدني أو عسكري أو غيره من الأنظمة الوضعية، ولا يجوز الاقتتال من أجل ديمقراطية أو علمانية أو جهوية أو قبلية، فالقاتل والمقتول تحت هذه الرايات آثم ومثواه النار وبئس المصير.
فلا بد من إقامة نظام الإسلام العظيم الذي يوقف هذه الفوضى، ويرفع الغبن والضغائن ويوحد صفوف المسلمين ويطبق فيهم شرع ربهم عبر دولة الإسلام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. قال النبي ﷺ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» رواه الحاكم.
* مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع