بدأ توجه تركيا "المعلن" لبناء علاقات مع السلطات المهيمنة على شرق البلاد منذ ستة أشهر تقريباً حين أعلنت عن فتح قنصلية لها في بنغازي شرق ليبيا عند السلطات التي تأتمر بأمر حفتر وأبنائه، ومن المعلوم أن دخول تركيا العسكري إلى ليبيا تم سنة 2019 زمن حكومة السرّاج وذهاب السرّاج إليها وتوقيع اتفاقية التعاون العسكري معها في وقت القتال الدائر مع قوات حفتر قريباً من طرابلس، والكل يعلم أن تلك الاتفاقية والدخول العسكري التركي دفاعاً عن سلطات طرابلس كان بإذن من أمريكا ودفعها لإرجاع حفتر عن طرابلس والمناطق الغربية بعد فشله في أخذ الغرب الليبي وطرابلس سريعاً في غفلة من أهلها والوجود المسلح فيها.
وبالتالي أصبح إبقاء البلاد بين الغرب والشرق يخضعان لسلطتين متحاربتين هدفاً في حدّ ذاته، رغم بقاء سيطرة البنك المركزي على مالية الدولة وقيامه بدفع المال للسلطتين بحيث يتم تحويل المال من البنك الخارجي الذي توضع فيه حسابات أموال النفط ويقوم هو بالدفع للجهتين حتى تنضج الظروف في الاتجاه الذي تراه أمريكا - وقد تعرّضتُ لذلك في مقال سابق – وجاء توجه تركيا مؤخراً بفتح قنصلية لها في بنغازي لرعاية مصالحها الناشئة هناك ودخول الشركات التركية إلى الساحة الشرقية من جديد، بعد سعي أبناء حفتر لتصدير الحديد "الخردة" إلى إسطنبول بالتعاون مع أطراف في المنطقة الغربية من البلاد، من بينهم جماعة محمد صوان وخالد المشري، فأخو خالد المشري هو من يستلم من أبناء حفتر حديد الخردة في تركيا. وهذا دلالة واضحة على أن الراعي الأمريكي يستمر في إبقاء البلاد هكذا لا هي موحدة ولا هي مقسّمة إلى كيانين منفصلين. فالأداة الأمريكية "تركيا" تتماشى مع ذلك، وتحول دون رجوع النفوذ الفرنسي والأوروبي عموماً باستثناء الوجود الإيطالي الموجود في طرابلس، فهناك بعض الوجود لشركات إيطالية في طرابلس على رأسها شركة INO للغاز والنفط الموجودة منذ أيام القذافي ولها التزامات، فهي تملك حقولاً في الصحراء ولها حقل كبير للغاز في البحر، وشكّل لها النظام السابق شركة مملوكة للدولة شريكة معها في عائدات الغاز والنفط وهي شركة (مليتة).
وقد سبق هذا كله عودة العلاقات بين النظام التركي والنظام المصري وهو الداعم لحفتر وقواته منذ عشر سنوات وهو يتعهده بالسلاح والأفراد منذ بداية تحركه في المناطق الشرقية وسيطرته بالقوة المدعومة مصرياً. وبعد استجابة النظام في تركيا لشروط النظام المصري في طرد أو إسكات المعارضة المصرية الموجودة على الأراضي التركية فأسكتت جميع المحطات التلفزيونية والإذاعية المنطلقة منها.
ولما كان الرأي العام في المناطق الغربية من البلاد لا يقبل وجود حفتر على رأس السلطة في طرابلس أو حتى شريكاً فيها، وهذا الجو ساعد الساعين في المنطقة الغربية "السعي الحثيث" للاستحواذ على المال عن طريق سلطة مزاجية مهترئة تعتمد المال وسيلة لكسب الولاءات وتقوم على تآلف مهزوز بين عشرات المليشيات التي لا همّ لها إلا البقاء في المشهد، وهي ترى في حفتر خطراً عليها.
في هذا الوقت المهيمن الأمريكي لكي يمسك بالساحة لا بد له من بناء علاقات مع كبرى المليشيات في المنطقة الغربية، مع الإمساك بصنيعته حفتر وقواته. فنراه قد سخّر تركيا لهذه الغاية، وتركيا لها مصلحة في ذلك.
فكان لقاء ابن حفتر - صدّام - أخيراً في تركيا على هامش معرض الصناعات التركية للسلاح وأدوات الأمن، في المعرض "الدولي في تركيا " مع عماد الطرابلسي وزير الداخلية في حكومة الدبيبة - غرب ليبيا - وما جرى بينهما من حديث عن تذليل المشاكل الحاصلة بين قوات شرق البلاد وقوات غربها. وعلى الأغلب أن هذا اللقاء قد تمّ بسعي تركي وليس مصادفة كما حاولت بعض الأبواق إظهاره، للتقريب بين قيادات عسكرية وأمنية من غرب البلاد مع من هو يمثل قوات حفتر في شرق البلاد، فكان عماد الطرابلسي لكونه وزيراً للداخلية في حكومة طرابلس وله مليشيا تابعة له هي "الأمن العام". ولكن خليفة حفتر لا يُؤمِن بالمشاركة في السلطة ولا التعامل مع فريق السلطة في المنطقة الغربية، وهو على القول "أنا أو لا أحد".
ولكن خليفة حفتر الآن في الثمانين من عمره فهو لا يصلح عند أسياده الأمريكان كشخصية قيادية في المستقبل ولذلك هو يدرك هذه الحقيقة فوضع أولاده في سياق التزعم والقيادة، وهذا أيضاً يساعد في إبقاء إمكانية التفجير في أي وقت شاء الأمريكان ذلك.
وفي المحصلة هذا التوجه ضروري لإبقاء المصالح الأمريكية وعلى هامش ذلك المصالح التركية، وقد صاحب كل هذا انعقاد لجنة 5 + 5 مع لجنة العمل الدولية المعنية بليبيا في مقر الأولى في سرت، وتقول ستيفاني خوري رئيسة بعثة الأمم المتحدة بالوكالة، وهي أمريكية، عن اللقاء بأنه "حاجة ملحّة لإنهاء الانسداد السياسي بهدف توحيد مؤسسات الدولة... العسكرية والأمنية..." حتى تتمكن أمريكا من إطلاق مسار سياسي (خداعي) يأخذ مزيداً من الوقت تتجذر فيه مصالح أمريكا في البلاد مع ما ترضى به تركيا وإيطاليا بشرط أن لا تضرّ بالمصالح الأمريكية في النفط والأمن ولا الولاءات السياسية لها، وإبقاء البلاد رهينة هذا الأخطبوط المهيمن على كل المسارات السياسية والعسكرية والاقتصادية في البلادـ، فهي قد أوجدت رموزاً وهياكل ومؤسسات من أمثال برلمان طبرق، والحكومات في طرفي البلاد، وبعثة الأمم المتحدة والمجلس الأعلى!! ولجنة 5 + 5 العسكرية، والحبل على الجرار...
فكل هذا لإبقاء نفوذها مهيمناً على الأوضاع في البلاد، وقد استطاعت زرع بذرة الشقاق والخلاف والصراع في البلاد، تثيرها متى شاءت وتُسكِّنها في الوقت الذي تريد، وأصبح ذلك نتيجة طبيعية للإعراض عن شرع الله وترك الحلول الشرعية والإعراض عنها بالكلية، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
رأيك في الموضوع