اجتمع خليفة حفتر قائد القيادة العامة، كما أطلقت عليه قرارات عقيلة صالح سيئ الذكر رئيس برلمان طبرق، مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف في مكتب الأول في الرجمة، منطقة المرج القريبة من بنغازي في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وهذه هي الزيارة الثانية له خلال هذه السنة بعد زيارته في شهر حزيران/يونيو الماضي. وقد أصدر وزراء خارجية الدول السبع بياناً بعد هذه الزيارة بيوم واحد، أدانوا فيه "الأنشطة الخبيثة" لروسيا في ليبيا.
في حقيقة الأمر يتركز الوجود الروسي في ليبيا على وجود عصابات فاغنر المسلحة التي دخلت البلاد بعد اتفاق بين خليفة حفتر رجل أمريكا في الشرق الليبي، وبين روسيا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، من أجل مساعدته في القتال الدائر حينها في بنغازي بينه وبين حركة شورى بنغازي برئاسة وسام بن حميد رحمه الله، ثم استمر الصراع مع قوات غرب ليبيا في محاولة السيطرة على طرابلس، وكان لهذا الوجود الروسي في ليبيا دور في تخريب المسار السياسي الذي تمّ التوافق عليه حينها عندما تُوصّل إلى توافق على السير في حلّ يوافق مصالح الأوروبيين ينتهي إلى انتخابات عامة في ليبيا لانتخاب مجلس نواب جديد ورئيس للبلاد والموافقة على دستور موحد، وقد كاد هذا المسار أن يصل إلى خطوات عملية في هذا الاتجاه. ومعروف أن هذا الاتجاه كانت تقوده أوروبا في وجود غسان سلامة على رأس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا.
إن خوف أمريكا من أن يصل ذلك المسار إلى وضع حل على سكّته جعلها تسارع عبر عميلها حفتر إلى إجهاض تلك المساعي فكانت حرب طرابلس ودور فاغنر فيها معروف، وبعد فشله في دخول طرابلس مع دخول تركيا على الخط طُرد حفتر حتى سرت، وبقيت ليبيا مقسّمة إلى طرفين بينهما صراع كما تريد أمريكا.
فيتبين من كل تلك الأحداث أن حفتر ليس إلا عصا بيد أمريكا تستعملها حيث تشاء، كما هو الآن يقوم بمساعدة قوات التدخل السريع في السودان. فاليوم يقوم حفتر بإذكاء الصراع في السودان الذي هو في الأصل صراع أوجدته أمريكا بين عملائها لإحكام سيطرتها على السودان، فقد ظهر جلياً أن حفتر يمد قوات الدعم السريع بالسلاح القادم من روسيا. وأمريكا ترى ذلك وتشجعه سراً للوصول إلى غايتها في تقسيم السودان أو يكون مصاحباً لتقسيم ليبيا أيضاً واستعمال روسيا بيدقاً في سبيل تنفيذ هذا المشروع "الجهنمي" ثم تطرد روسيا في الوقت المناسب، وهي تظن أنها دولة ندٌّ لأمريكا، والحقيقة هي أن أمريكا تستعملها من دون أن تقدم لها شيئا سوى ما تجنيه من هذه البلاد بعناصر فاغنر من نهب وسرقات وتهريب للنفط الخام والذهب والمعادن.
ولا يغيب عنا أن روسيا طُردت من مصر في سبعينات القرن الماضي أيام السادات عندما كانت أعظم من الآن بكثير (أيام الاتحاد السوفيتي) بخطاب من السادات، ولم يستعمل السادات في ذلك أي قوة مادية. فروسيا وجودها في ليبيا لا يحقق لها إلا مصالح صغيرة أقل حتى من المصالح التي تحققها تركيا في ليبيا.
وقد اندفعت روسيا في التدخل في السودان وأفريقيا عبر حفتر، ولعلها لغبائها السياسي لم تنتبه أن أمريكا تستعملها لطرد النفوذ الأوروبي وخصوصاً نفوذ فرنسا وبريطانيا المتجذر في أفريقيا الغنية بالمواد الخام اللازمة لصناعاتهم. وأمريكا عندما تريد إنهاء وجودها في ليبيا أو في السودان أو في دول أفريقيا تأمر عملاءها بذلك فلا تستعمل قوتها طالما العميل يقوم بذلك مقابل حمايته وضمان بقائه على رقاب الناس. فما تقوم به روسيا في ليبيا من إنشاءات وتجهيز لقواعد عسكرية في القرضابية والجفرة والخادم وميناء طبرق وقاعدة براك الشاطئ، إنما هو لتسهيل حركة عناصر فاغنر في الخروج والدخول إلى ليبيا وتشاد دون المرور على مقرات ومطارات السلطات الرسمية، وهذا رغم أنه الآن يخدمها غير أنه في قادم الأيام هو علامة ضعف تسهل معها الإدانة، وإخراجها عندما يحين الوقت.
وها هو النموذج السوري الآن شاهد على هذا، فقد ترك الروس أماكن عديدة كانوا منتشرين فيها، رغم أنهم كانوا موجودين بإذن من النظام، فالوضع متشابه إلى حد كبير، بل إن وجودهم الآن في ليبيا والسودان وتشاد يخدم أمريكا كثيراً، فهم في حالة صِدام مع المصالح الأوروبية والشركات الأوروبية وهم يعملون على تقويض هذه المصالح.
وقد صرح الأوروبيون في لقائهم الأخير (لقاء وزراء خارجية الدول السبع) فجاء بيانهم تعبيراً فاضحاً عن امتعاض وغضب من نشاط روسيا في ليبيا. ذلك النشاط الذي وصفوه "بالأنشطة الخبيثة" وطالبوا في البيان بانسحاب جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب فوراً من ليبيا، وأكدوا على دعم جهود الأمم المتحدة في ليبيا وقالوا: "توجد فرصة لإعادة إطلاق عملية تؤدي إلى اتفاق سياسي شامل يمهد الطريق لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة نزيهة"، وكان بيانهم هذا بعد يوم واحد من اجتماع حفتر مع نائب وزير الدفاع الروسي في مكتبه في الرجمة المرج قرب بنغازي. وقد جاء في موقع أويل برايس "أن روسيا تعمل على تعزيز علاقاتها مع خليفة حفتر قائد قوات الكرامة بهدف تعطيل إمدادات الطاقة لأوروبا"، وأضاف الموقع البريطاني في تقرير له "أن موسكو تسعى لإزاحة شركات النفط الغربية، والحلول محلها في استغلال واستخراج احتياطيات ليبيا النفطية الضخمة، وأشار التقرير إلى أن ليبيا يمكن أن تزود أوروبا بكميات هائلة من النفط والغاز...".
ولقد غاب عن أذهان الكثيرين من الطلائع في هذه البلاد أن المستعمر مهما كانت جنسيته فهو عدو للأمة ولا يجوز التحالف معه أو الخضوع لمشورته خاصة في قضايانا المصيرية. والله سبحانه وتعالى يخبرنا بأنه: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.
رأيك في الموضوع