تعصف بالبلاد خلافات سياسية عميقة بين الأطراف الموجودة الفاعلة على الساحة الليبية، وأحدثها الصراع على من يملك السيطرة على سياسة المصرف المركزي، ومحاولة كل طرف من الأطراف المحلية السيطرة عليه ليسهل له استعمال المال العام في سبيل السيطرة على حَمَلَةِ السلاح في البلاد عن طريق الرشاوى والدعم المالي وشراء الذمم من هذه المليشيات وحَمَلَة السلاح.
ويتبين بوضوح أن هذا الصراع وهذه الخلافات مسموح بها، أو قُل موجهة بدقة من الأطراف الدولية، ولا زالت حتى الآن هذه الصراعات تحت الرعاية الأمريكية على وجه الخصوص وبشكل مباشر.
ولا أدَلّ على هذه الحقيقة من صدور بيان من نورلاند المبعوث الأمريكي إلى ليبيا، الذي ركّز فيه على "أن محاولة استبدال قيادة مصرف ليبيا المركزي بالقوة يمكن أن تؤدي إلى فقدان ليبيا القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية". وهذا تهديد مباشر موجه إلى القوى والمجموعات التي خلف الدبيبة والساعية إلى استبدال الصدّيق الكبير بغيره أكثر ملاءمة لها وللدبيبة.
وأيضا صدور بيان موحد عن سفارات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا يتضمن الدعوة إلى "أقصى درجات ضبط النفس" بعد تحركات عناصر حفتر في الجنوب واستنفار القوى المسلحة في المنطقة الغربية في مواجهة سلاح حفتر.
ومعلوم أن اتفاق الصخيرات قد نصّ على إنشاء المجلس الأعلى من المؤتمر العام حينذاك. وقد جاء في اتفاق الصخيرات تحديد دوره الاستشاري وقد أعطي حقّ الموافقة على رئيس الحكومة، وعلى ميزانية الحكومة، وعلى المناصب السيادية ومنها تعيين رئيس المصرف المركزي.
ثم جاء اتفاق جنيف (الفاسد) الذي أعدّت له وأمضته بعثة الأمم المتحدة بقيادة ستيفاني ويليامز الأمريكية، وانبثقت عنه حكومة الوحدة الوطنية (حكومة عبد الحميد الدبيبة) كحكومة مؤقتة، من مهامها إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في كانون الأول/ديسمبر 2021. ولم تحصل الانتخابات في موعدها للعراقيل التي وضعت في طريق إجرائها. وقد ساهمت كل الأطراف في وضع هذه العراقيل، لأن جميع القوى المحلية التي في السلطة - رغم صراعاتها فيما بينها - لا تريد إجراءها، لأنها لا تضمن بقاءها في السلطة. والقوى الدولية المسيطرة وعلى رأسها أمريكا لا تريد الانتخابات أيضاً لأنها لا تريد تغيير الواقع السياسي في البلد وتريد استمراره هكذا، فهي غير راغبة في إيجاد حل للمسألة الليبية، وهي مع بقاء الحال على ما هو عليه (لا حلّ ولا تفجير) حتى حين.
وفي هذا السياق ما سرّ تحركات قوات حفتر جنوباً؟! نلاحظ أنه عندما حاول الاقتراب من حدود ليبيا الغربية مع الجزائر، تحرّكت الجزائر وأصدرت بياناً يرفض وجود قوات لحفتر على الحدود معها. فصدر من ابن حفتر (صدام) قوله: "إن تحركات قواته جنوباً هي من أجل تأمين الحدود الجنوبية لليبيا".
وبعد تحرك قوات حفتر إلى الجنوب الغربي للبلاد - مع العلم بأن هذه المناطق تابعة لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة في طرابلس - على إثر ذلك حدثت مجموعة من التطورات في الغرب الليبي على وجه الخصوص.
أ- جرت انتخابات داخل المجلس الأعلى على منصب رئيس المجلس الأعلى وعلى منصب النائب والمقرر بتاريخ 6/8/2024م، وحسب إعلان النتائج فقد نجح خالد المشري الرئيس السابق بفارق صوت مشكوك فيه ما أثار جدلاً حوله.
ب- وفي اليوم نفسه قام عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق بإصدار قرار سحب الاعتراف من حكومة الدبيبة على اعتبار أنها منتهية المدة ولا يعود لها حقّ التصرف في شأن الحكومة وبذلك تصبح حكومة بنغازي هي الشرعية، حسب قول عقيلة صالح. فردّت حكومة الدبيبة على قرار سحب الاعتراف هذا بأنها تستمد شرعيتها من مؤتمر جنيف وهي باقية حتى إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
ج- ثم حصل استنفار عام لكل القوى المسلحة في المناطق الغربية من البلاد.
د- بتاريخ 9 من هذا الشهر حصلت اشتباكات بين كتيبتين في مدينة تاجوراء على حدود مدينة طرابلس الشرقية ما أثّر على حياة الناس العامة، وفهم منه بعض الذين هم في السلطة أنه بتدبير من حفتر لإرباك الساحة وإشغال القوى الموجودة بالدخول في احتراب لا طائل منه، واشغالٍ لهم عمّا يعمل له ولذلك سارعوا إلى وأده في مهده.
هـ- يوم 11 من هذا الشهر آب/أغسطس قامت مجموعة مسلحة بمحاصرة المصرف المركزي وتهديد رئيس المصرف المركزي (الصدّيق الكبير) مع المطالبة بإقالته.
مجموع هذه الأحداث الحاصلة مؤخراً ثم خفوتها بالسرعة الملفتة يدلّ على أن كلَّ طرف من الأطراف المحلية يحاول من جهته أن يدعم موقفه، غير أن اليد الدولية المسيطرة تتدخل كلما رأت أن الأحداث تقود إلى التحارب والامتداد لأن حدوث ذلك - في الوقت الراهن - يحول دون تحقيق مصالح تلك الدول وخصوصاً أمريكا. لذلك فهم يسعون دائماً لكبح النزاع المسلّح في ليبيا مع عرقلة السير في طريق الحل للأزمة الليبية طالما أن الأطراف المحلية تخطب ودّهم وتلجأ إليهم، وخصوصاً بعثة الأمم المتحدة التي تتفنن في عرقلة الحلول، فهي تقدم المشروع تلو المشروع ثم تُدخل عليه عنصراً جديداً يفسده.
فالسير خلف الأمم المتحدة وسفارات الدول الكبرى يؤدي حتماً إلى الفشل وإلى تفسّخ الأوطان وانهيار البلدان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.
رأيك في الموضوع