ما كان استمرار الأزمة في ليبيا وتفاقمها إلا بفعل التدخل الأجنبي المستمر فيها حتى بات واضحاً أنه لم يعد للأطراف المحلية المتنازعة من دورٍ حاسم في حل الأزمة على أي وجه كان، وقد أدى هذا لتقديم مشاريع شتى ظاهرها حلٌ للأزمة، وحقيقتها زادت الأزمة تعقيداً وتأزيماً؛ فبعد فشل حفتر وداعميه في السيطرة على العاصمة وانهزامه وتراجعه شرقاً حتى سرت، وبقائه مسيطرا على أكثر من نصف البلاد، حصلت جملة من الأعمال واللقاءات والقرارات نظمتها الدول الغربية في موسكو وبرلين وباريس وباليرمو والقاهرة، وقد كانت كل هذه اللقاءات ظاهرها البحث عن حلٍّ للأزمة، في حين إنها كانت صراعاً بين هذه الدول المتدخلة في شأن ليبيا، وبعد ذلك أضحت القوى المحلية مجرد أدوات في صراع الدول الكبرى، وآخر صور هذا الصراع ما حصل في مجلس الأمن من خلاف على من يكون رئيس بعثة الأمم المتحدة الجديد في ليبيا إثر انتهاء مهمة ستيفاني وليامز. جاء في تصريح مندوب ليبيا في الأمم المتحدة طاهر السني: "إن هناك صعوبة في تعيين مبعوث خاص إلى ليبيا بسبب وجود مشاكل تحول دون الوصول إلى اتفاق داخل مجلس الأمن". وقد كان هذا بعد أن رفضت أمريكا تعيين وزير خارجية الجزائر السابق أبو قدوم لهذا المنصب.
وأيضاً بعد أن رفض المندوب الليبي تعيين السنغالي بيتالي للمنصب نفسه، ويبدو أن هذا الرفض بدفعٍ من أمريكا، لأن أمريكا لا تريد أن يكون رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا من الوسط الذي تسيطر عليه فرنسا فدفعت المندوب الليبي للاعتراض.
لقد شاهدنا الأمريكية ستيفاني وليامز رئيسة بعثة الأمم المتحدة السابقة إلى ليبيا بعد انتهاء فترة رئاستها في لقاء مع موقع ميدل إيست مونيتور البريطاني، والذي قالت فيه: "معظم القادة الليبيين يحبون مغازلة الجهات الخارجية والسفر حول العالم، وتلقي معاملة السجاد الأحمر، مع ذلك فإن هؤلاء القادة الليبيين نفاقاً يلقون باللوم على هذه الجهات..." (نقلاً عن بوابة الوسط، 13/8/2022).
فهي تخفي الدور الذي قامت به في إلقاء التناقضات وتبديل الصيغ والمواقف كلما قارب المتحاورون من الوصول إلى نتيجة، ولا تسمح لأي حوار في الوصول إلى اتفاق ما، وهذا السلوك مارسه من قبلها غسان سلامة الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، فخلال هذا الزمن الطويل للأزمة في ليبيا نجد أن دور بعثة الأمم المتحدة هو إطالة عمر الأزمة مع التقديم المستمر "لإبر المورفين المسكن" لبقاء الحال ممسوكاً حتى لا يخرج الوضع أو يفلت من أيديهم فيستمر تدخل البعثة وأيضاً سفراء الدول الكبرى كلٌ حسب مصلحته في استمرار الأزمة، والدفع بها باتجاه مصالح دولته، في ظل حالة عدم وجود حل.
وفي الفترة القريبة حصلت جملة من الأمور، أولها قيام برلمان طبرق بتعيين باشاغا رئيساً للوزراء بدلاً من عبد الحميد دبيبة، ورفض دبيبة التسليم له بحجة أنه لن يسلم إلا لسلطة جديدة منتخبة من مجلس نواب جديد منتخب، حسب الاتفاق الذي أوصله لرئاسة الحكومة، معتبراً حكومة باشاغا حكومة انقلابية. وصرح أن "زمن الانقلابات قد ولى" وطالب في تصريحه "مجلس النواب والأعلى للدولة بالكف عن العبث وإقرار قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات" (12/8/2022)
وهذا السلوك الذي يسير فيه مجلس نواب طبرق والأعلى للدولة من عدم الاتفاق على قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات بتشجيع من مصر وتركيا هو مؤشر واضح بأن أمريكا لا تريد حلاً الآن للأزمة في ليبيا، وإنما تريد إبقاءها بين الهدوء والتفجير، ولا يتم هذا إلاّ بالإبقاء على هذا الوسط السيئ التابع لهم من السياسيين على رأس هذا الحكم الهزيل، فهو أفضل وضع لأمريكا لتخريب البلاد وإضاعة المال وإحداث إفقار عام في كل القطاعات حتى عندما تريد أن توجد الفوضى يكون الأمر سهلاً عليها، مستغلة في ذلك حالة الانقسام في صفوف الشعب؛ بين مؤيد للثورة، ومؤيد لأنصار النظام السابق، ومؤيد للتيار العلماني السائر في ركاب حفتر.
أما طرح تشكيل حكومة ثالثة جديدة قد تكون هي الحلَّ للخلاص من الحكومتين، فهو طرح ساذج لحل الأزمة، وكأن الحكومة الأولى والثانية هما سبب الأزمة بينما هما ثمرتها وثمرة المهيمنين على البلاد من القوى الأجنبية!
ولا يمكن حل أزمة ليبيا طالما بقي الأجنبي هو المتحكم في هؤلاء الأشخاص الذين يطبقون على البلاد والعباد، فلا بد من قيام العقلاء والمخلصين في هذا الشعب الكريم بالعمل الجاد لرمي هؤلاء الأتباع خارج دائرة التأثير وقطع الصلة بالأمم المتحدة المجرمة والدفع بمن ليسوا بعملاء إلى مواقع القيادة والحكم، والقضاء على البيئة التي تسمع للسفارات وتمشي في دهاليز صناعة العملاء، وبث اليقظة في أوساط الناس وتجلية أبصارهم لخطورة العمالة والعملاء، والاعتماد على الله وحده وقفل معابر وأبواب السوء.
رأيك في الموضوع