أظهرت الانتخابات التشريعيةُ الأخيرة التي أجريت في الجزائر يوم 4 أيار/مايو 2017م، والتي أعلن عن نتائجها الأولية وزيرُ الداخلية الجزائري في الخامس من الشهر، أن نسبةَ المشاركة كانت متدنية وصادمة. حيث مثلت هذه النسبةُ أقل من ثلث المسجلين في القوائم، الذين ناهز عددهم 23 مليوناً، بينما كان عدد الأصوات المعبر عنها ما يربو قليلاً على 8 ملايين. كما عبر ما يزيد عن مليوني ناخب عن رفضهم وسخطهم بطريقة مختلفة، حيث إنهم "أسمعوا صوتهم" من خلال ورقة بيضاء أو ملغاة (أي معدومة)! فكانت المحصلة أن أكثر من 17 مليون من بين المسجلين هم عملياً من المقاطعين، وذلك بحسب أرقام الجهات الرسمية.
وبينما أعلنت الجامعة العربية أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الجزائر كانت نزيهة وشفافة، فإن الملاحظ واللافت هذه المرة هو أن الكثير ممن يقف في "صف المعارضة" من السياسيين عموماً والمهتمين بالشأن العام من مناضلي الأحزاب السياسية (المقاطِعة خاصةً) استبشروا خيراً - عبر ممثليهم - بما وصفوه نتيجةً معبرةً حقاًّ عن رفض أغلبيةِ الشعب الساحقة لما تقوم به السلطة، معتبرين المقاطعة نفسها موقفاً سياسياً إزاء نظامٍ قمعي دكتاتوري متعفن! فقد جاء على لسان بعضهم: "تحية لكل مَن رفض أن يلطخ أصبعَه بحبر المسرحية الانتخابية!" أو: "تحية لمن رفض الانخراط في مسار السلطة!". ولكن في الوقت نفسه تساءل الكثيرُ منهم عن كيفية تفعيل موقف هذه "الكتلة الصامتة" الكبيرة!! بل حتى الأحزاب السياسية المرخَّصة والمشارِكة في هذه الانتخابات عبَّـر الكثيرُ منها من خلال تصريحات رؤسائها وناطقيها ومناضليها عن سخطهم ورفضهم للنتائج الهزيلة المحققة، حيث آلت أغلبية المقاعد في غرفة البرلمان - كما كان متوقعاً - بحسب النتائج الأولية إلى حزبي السلطة جبهة التحرير الوطني (164 من بين 462) والتجمع الوطني الديمقراطي (97) مع بعض فتات المائدة لـ"الإسلاميين المعتدلين" (الذين لا يستقرون على حال!)، متهمين الإدارة القائمة على العملية الانتخابية بالتزوير الإداري والخداع السياسي واحتكار الإعلام، فضلاً عن الانحياز وممارسة الضغط أثناء الحملة الانتخابية والتلاعب بالصناديق أثناء الفرز وقبله وبالمحاضر بعده... وغير ذلك، ومعتبرين ما حدث مهزلةً غير مسبوقة.
وبغض النظر عما حدث فعلاً وما استُخدم من أساليب شيطانية وممارسات دنيئة يمكن إجمالها في أن الإدارة القائمة - ومثلها هيئة مراقبة الانتخابات وجهاز العدالة - لا تقف على مسافة واحدة من الجميع، وإذا احتكرنا وقصرنا لفظ "المقاطعين" على الذين كان لهم موقف سياسي "معبر عنه" كما هو مصطَلح عليه من خلال الامتناع عن التصويت، فإن الحقيقة الساطعةَ في هذه الانتخابات (كما في سابقاتها) هي أن أغلبية الفئة المقاطِعة - وهي أكثر أفراد الشعب، سواء المسجلون في القوائم أو غيرهم - هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، إذ هي ليست في هذه الخانة - أي في خانة المقاطعة - من باب موقفٍ سياسي اتخذته تجاه النظام القائم! وهذه في واقع الأمر ليست سوى واحدة من مهازل اللعبة الديمقراطية الزائفة في دول العمالة والانبطاح والتبعية!! بل الحقيقة هي أن الشارع في الجزائر يقف في أغلبه إما موقف اللامبالي بما يجري في البلد أصلاً، أو موقف المعرِض عن السياسة وعن الشأن العام بالمطلق، أو اليائس من الوضع القائم، وذلك بسبب سوء الرعاية (منذ عقود) وما يكابده الشعب في الجزائر من معاناة في حياته اليومية، وما عاش من مآسٍ سابقة، وما يتوقع من محن لاحقة!
إلا أن المدقق أكثر في أحوال هؤلاء المقاطعين أي الممتنعين عن إدلاء أصواتهم يوم الاقتراع، يجد أن دوافعهم مختلفة متباينة. وحيث إن نسبة العزوف أو المقاطعة كانت كبيرة جداًّ، خلافاً لما أعلنته الجهاتُ الرسمية، فيجب النظر في هذه الدوافع من خلال رصد آراء الناس في الشارع عبر الاحتكاك بهم لمعرفة حقيقة توجهاتهم. وقد تبين من خلال هذه العملية أن مواقف الناس في الشارع لا تعدو أن تكون مبنيةً على أحد أو بعض أمور ثلاثة هي:
1- أنَّ أعضاء البرلمان القادم كسابقيه معروفون مسبقاً من خلال القوائم! بمعنى أن اللعبةَ مغلقة من خلال التعيين من أعلى الهرم والضغط السياسي والمادي والمعنوي وشراء الذمم والتزوير وانحياز الإدارة وغيره، وإن بدت خلاف ذلك في الظاهر والشكل. إذ السلطة تستخدمهم دوماً لتمرير كل ما تريد من سياسات وقوانين وتشريعات، باعتبار الشعب - عبر "ممثليه" - مصدر السلطة التشريعية بل مصدر جميع السلطات!
2- أن كل المترشحين انتهازيون نفعيون متسلقون لا يبحثون سوى عن مصالحهم الشخصية باعتبارهم جزءاً من النظام المتعفن! وبالتالي سوف لن يأتي منهم مستقبلاً للشعب من خلال البرلمان الجديد (المجلس الشعبي الوطني) سوى الأسوأ، حيث إنهم لن يلتفتوا أصلاً بعد انتخابهم إلى مطالب ومصالح الناس، كما كانت الحال بالنسبة لمن سبقوهم.
3- أن التعدديةَ السياسية في البلد كاذبة وزائفة رغم كثرة الأحزاب (والبرامج) التي هي بالعشرات (أكثر من 50). وأن الحقيقةَ في البلد ليست سوى حكم العسكر والارتباط بالأجنبي والتبعية للخارج!
لذا وجب القول: إن ما يجب أن يعيه المقاطعون قبل غيرهم هو أن مقاطعةَ الانتخابات يجب أن تكون مبنيةً على أن فكرةَ الديمقراطية مرفوضةٌ وباطلة من أساسها، وأن البرلمانات في النظم الديمقراطية - ولو زيفاً كما هي الحال في كل الدول التابعة - تكتسي صفةَ التشريع من دون الله، وهو الأمر الذي يصطدم مع الإسلام في الجوهر، حيث لا انتخاب ولا تصويت برفع الأيادي أو بغيره ولا مساومة على أحكام الله مطلقاً، إذ السيادة في دولة المسلمين هي للشرع وهو الكتاب والسنة، أي ما جاء به وحياً من عند الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك من معنى توحيد الله عز وجل.
ثم إن المشاركة أو المقاطعة (سواء من قِبل الأفراد أو الأحزاب) في عملية تجديد البرلمان مع الإيمان بالديمقراطية وسيادة الشعب الممارَسةِ من خلال عمليةِ التشريع وسن القوانين تحت سقف الجمهورية والدولةِ الوطنية - ولو زيفاً كما هو حاصل في هذه الدول الوطنية الوضيعة التي صنعها المستعمِر - لا تعني في الحقيقة سوى تثبيت نفوذ الكافر في بلاد المسلمين بتكريس الوضع القائم وتكريس التبعية للأجنبي، وذلك بإقصاء الشريعة الإسلامية عملياً. وهو ما يعني قطع الصلة مع رب العالمين، وذلك هو الخسران المبين! كما أن المقاطعةَ والدعوة إليها من قِبل الأحزاب ليست في حقيقة الأمر فعلاً سياسياً مؤثراً في الساحة السياسية في بلاد المسلمين إلا بقدر ما ينخرط أصحابـُها في العمل السياسي المثمر - على أساس الإسلام - خارج أطر اللعبة الديمقراطية الكاذبة التي تشرف عليها بإحكامٍ أجهزةُ الحكم في النظم القائمة التابعة للمستعمِر وفق مصالحه ومصالحها وبغرض تثبيت نفوذه ونفوذها.
أما المشاركون في الانتخابات بصفة الترشح، سواء من أحزاب الموالاة (الذين تتلخص حملتُهم في كل مرة في برنامج الرئيس والمنّ على الشعب بإنجازات الرئيس... محذرين من مغبة زعزعة الاستقرار الذي تحقق بفضل الرئيس!!) أو من "المعارضة" من أحزاب الديكور، أو حتى من الأحرار، فإنهم جميعاً يقفون في الساحة بين مطبلٍ أو منتفعٍ لا يبحث سوى عن موقع في "دفء" السلطة الفاقدة للشرعية في نظر الإسلام، إذ هي - أي الأحزاب التي ينتمون إليها - مرخَّصةٌ أصلاً على أساس الولاء والتبعية وتكريس ما هو كائن. وهي في المحصلة ليست إلا شيئاً واحداً مستفيداً من الوضع القائم، وإن اختلفت أسماؤها ضمن تعددية زائفةٍ كاذبة خاطئةٍ.
إن ما يجب طرحه ووضعه موضع التطبيق - من بين نُظم الحكم - في الجزائر وفي غيرها من بلاد المسلمين، خصوصاً وأننا جميعاً مسلمون وفي بلد إسلامي، إنما هو ما يجب أن يكون شرعاً، وهو نظام الخلافة، الذي سوف يحقق كل ما يصبو إليه المسلمون في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 50]. علماً أن السلطة في الجزائر تعكف حالياً بتدبير من الخارج (مستخدمةً كل الوسائل) على التحضير لـ"التغيير القادم" من خلال بلورة أرضية للتوافق يُقصى فيها الإسلامُ عن الشأن العام (كما كان) ضمن مسارٍ سياسي يضمن التبعيةَ للمستعمِر - إذ يتحدد بموجبه مَن سيكون في موقع الرئاسة مستقبلاً - ويأخذ بعين الاعتبار محصلةَ التجارب السابقة، على أساس الفكرة الوطنية وبناءً على مطلب الدولة المدنية!
بقلم: صالح عبد الرحيم - الجزائر
رأيك في الموضوع