على خلفية انعقادِ مؤتمر القمة العربية في الجزائر يومي الفاتح والثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022، نجد أنه لا بد من التذكير بنشأة الجامعة العربية من خلال لمحة تاريخيةٍ موجزة، والتحذير من أنه كثيراً ما يتم في بلاد المسلمين تمريرُ الخيانات على الشعوب وتسويقُها عبر العملاء السياسيين على أنها نجاحات وإنجازات. إن أواخر أربعينات القرن الماضي كانت قد شهِدت بدايةَ التنافس الأنجلو-أمريكي على المستعمَرات خاصةً في بلاد المسلمين، بعدما خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية أقوى من الجميع. وفي خضم ذلك الصراع وبتدبيرٍ من الإنجليز شهدت المنطقة ميلادَ جامعة الدول العربية عام 1945 برئاسة أمينها الأول (1945-1952) عبد الرحمن حسن عزام، وكان هدف بريطانيا من إنشائها تكريس الفرقة بين شعوب المنطقة وسجنها داخل سياج القُطرية لمنعها من التحرر، وفي الوقت ذاته احتضان الدول العربية في مواجهة الاستعمار الجديد. وفيما يتعلق بالجزائر فقد شهدت تلك السنوات احتدامَ الجدل تحت التأثير الأجنبي بين الجزائريين حول هوية الجزائر هل عربية أم أمازيغية؟! وحول مسألة انتماء أهل الجزائر. وإذ إنَّ عروبة الجزائر كانت تقتضي العضويةَ المستقبلية في الجامعة العربية بعد خروج المستعمِر الفرنسي ونشوء الدولة، بالإضافة إلى العضوية في الأمم المتحدة، فإن أغلب القادة السياسيين والثوريين الجزائريين كانوا مع مطلع الخمسينات يتأهبون لإشعال الثورة المسلحة على المستعمِر الفرنسي، ويتأهبون في الوقت ذاته بتأثير وتوجيهٍ أمريكي واضحٍ لرفع قضية الجزائر وعرضِها على منظمة الأمم المتحدة التي كانت قد أُنشِئت للتو من قِبل أمريكا المنتصِرة في الحرب. وفي نهاية المطاف خلصوا بعد كل ذلك الجدل حول الهوية والانتماء إلى أنَّ الجزائر "جزائرية"، ووصلوا - ربما بشكل لا نظير له في سائر بلاد المسلمين - إلى تكريس مزج الإسلام بالفكرة الوطنية الجزائرية والانتماء الجغرافي والعلمانية المقيتة، التي تُقصي الإسلامَ وتمقتُ الشريعةَ الإسلامية كنظام للحياة، بل تُبعده تماماً عن طاولة البحث أو الاعتبارِ السياسي، حيث تذوب بزعمهم كلُّ الانتماءات والتوجُّهات الأيديولوجية بما فيها "الدينية"! وجرى بذلك تقزيمُ الإسلام في الدولة الناشئة وإبعادُه تماماً عن السياسة وتثبيتُ العلمانية الهابطة تحت سقف الوطنية الدنيئة وفق رؤيةِ العدو ورغبةِ الكافر المستعمر الغربي ليصبح الإسلامُ - شكلاً فقط - أحدَ عناصر الهوية في الجزائر، ولم يعد هو الهوية! إلا أنه رغم كل ذلك الجدل حول مسألة الهوية والانتماءِ في الجزائر، فقد تكرَّس فيما بعد اعتبارُ الجزائر "المستقلة" دولةً عربيةً، حيث انضمت إلى قافلة دولِ الجامعةِ العربية التابعة للمستعمِر يوم 16 آب/أغسطس 1962، أي بعد أقل من شهرين على "استقلالها" عن فرنسا! وهو ما أثار حفيظة شريحةٍ معتَبرة من الأمازيغ، خاصةً المناهضين منهم للعربية والرافضين لعروبة الجزائر!! ولكن عقب الثورة المصرية على المـَلَكية (23 تموز/يوليو 1952) انتقلت الجامعةُ العربية إلى أحضان الأمريكان وعملائِهم من أمثال عبد الناصر مع بقاء مقرها في القاهرة بإرادة أمريكية حيث استلم الجامعةَ العربية محمد عبد الخالق حسونة، الذي خلَفَ عبد الرحمن حسن عزام في الأمانة العامة.
ومن المعلوم أنه منذ إنشاء جامعةِ الدول العربية بتدبير من المستعمر البريطاني في سنة 1945م كما أسلفنا، قررت الدولُ العربية المؤسِّسة لها أن يكون لفلسطين مندوبٌ يمثلها في الجامعة على الرغم من كون فلسطين تحت الانتداب البريطاني آنذاك. وظلت فلسطين ممثَّلةً في الجامعة العربية حتى بعد نكبة 1948م ونشوء الكيان العبري بتآمر دولي، وقد تعاقب على تمثيلها في الجامعة موسى العلمي وأحمد حلمي عبد الباقي وأحمد الشقيري. وفي مؤتمر القمة العربي الأول للجامعة دخلت أمريكا - الطرف الدوليُّ الأقوى حينها - على الخط، لتُمسك بكل الخيوط فيما بعد، حيث انعقد ذلك المؤتمرُ في القاهرة بتاريخ 13/1/1964م استجابةً لدعوة الرئيس جمال عبد الناصر العميل الأمريكي المتخفي بالعروبة والاشتراكية وفكرةِ عدم الانحياز، لمواجهة عزم كيان يهود تحويل نهر الأردن بحسب زعم الدول العربية. فتم إصدارُ قرار يقضي بإنشاء كيانٍ فلسطيني يُعبِّر عن إرادة شعب فلسطين ويُقيم هيئةً تطالب بحقوقه لتمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره. وكلَّف المؤتمرُ أحمد الشقيري ممثل فلسطين في جامعة الدول العربية آنذاك بالاتصال بأبناء فلسطين لهذه الغاية حيثما كانوا وإبلاغ مؤتمر القمة بالنتيجة. قام على أثر ذلك أحمد الشقيري بجولة زار خلالها الدول العربية واتصل بأبناء فلسطين فيها، وأثناء جولته تم وضعُ مشروع الميثاق والنظام الأساسي لما صار منظمة التحرير الفلسطينية، وتقرر عقد مؤتمر فلسطيني عام واختار الشقيري اللجان التحضيريةَ للمؤتمر في جميع البلاد العربية "المضيفة" للفلسطينيين. انعقد المؤتمر الفلسطيني الأول في مدينة القدس من 28/5 إلى 2/6/1964م وافتتحه الملك حسين العميل المخلص للإنجليز (منشئي مملكته) وألقى فيه خطاباً. تفرعت عن المؤتمر تسعُ لجانٍ وخرج بالعديد من القرارات أهمها إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية حيث نص القرار على التالي: [إيماناً بحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المقدس فلسطين، وتأكيداً لحتمية معركة تحرير الجزء المغتصب منه وعزمه وإصراره على إبراز كيانه الثوري الفعال وتعبئة طاقاته وإمكانياته وقواه المادية والعسكرية والروحية، وتحقيقاً لأمنية أصيلة من أماني الأمة العربية مُمَثَّلةً في قرارات جامعة الدول العربية ومؤتمر القمة العربي الأول، نعلن بعد الاتكال على الله باسم المؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد بمدينة القدس في 28/5/1964م قيام منظمة التحرير الفلسطينية قيادةً معبِّئةً لقوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركةِ التحرير، ودرعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه، وطريقاً للنصر]. ولا يخفى على المتابعين أن معركة التحرير المعبَّر عنها في البيان وأن المنظمة الفلسطينية نفسَها قد نشأتا تيمُّناً بالثورة الجزائرية واقتداءً بجبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كانت قد خرجت للتو منتصرةً انتصاراً مدوياً في عيون كل شعوب وحكام المنطقة في عام 1962م، وتماشياً مع فكرة "حق الشعوب في تقرير المصير" الاستعمارية هي الأخرى، علماً أن الجزائر كانت من قبلُ الحضن الدافئ لحركة فتح حيث افتُتح أولُ مكتب للحركة في العاصمة الجزائرية يوم 23/09/1963م وكان على رأسه أبو جهاد، فجاءت المنظمةُ كهيئةٍ تحمل تماماً بصماتِ الجبهة الجزائرية في تشكيلها وتنظيمها محاوِلةً جمعَ مختلفِ قوى الشعب ومُعبِّرةً عن إرادته تحت سقف الفكرة الوطنية الهابطة والعلمانية المقيتة وفي الوقت ذاته متنكرةً حقيقةً لا في الظاهر للإسلام المحركِ الحقيقيِّ للجهاد ضد المستعمِر الغربي والكيان المحتل تنكراً عجيباً، مبعدةً لأي تيار إسلامي في تركيبتها ومُفضِّلةً كلمة النضال على كلمة الجهاد، لتستوعبَ حسب زعمهم عمليةُ التعبئةِ والتحريرِ غيرَ المسلمين من أهل فلسطين!! وقد كان ذلك في واقع الأمر خدعةً استُهلكت فيها مشاعرُ المسلمين في كفاح رخيص تحت شعار الوطنية والنضال من أجل تحرير الوطن لم يُحقق شيئاً للأمة سوى تمكين العدو من الأرض! يجب أن نذكِّر هنا بأن هؤلاء وأولئك في الجزائر وفي فلسطين وفي غيرهما، ظلوا دائماً من أجل الحفاظ على مواقعهم ومكاسبهم لدى شعوبهم حريصين قبل "التحرير" وبعده على الظهور في الشاشات واقفين في الصفوف الأولى للصلاة في الأعياد والمناسبات في مساحاتٍ معينةٍ من مساجد عواصمِهم تحت حراسة مشددةٍ للغاية، ليخرجوا منها بعد ذلك ويستأنفوا مهمتَهم الأصلية الموكلة إليهم دون كللٍ ولا مللٍ وبعزيمةٍ لا تفتر، المتمثلة في تمرير المؤامرات وحربهم على الإسلام والمسلمين تحت مسمياتٍ مختلفة منها الإرهاب ومنها الإسلام السياسي والتطرف وغير ذلك.
انتهت الآن قصةُ فتح المحزنة كبرى فصائل منظمة التحرير ومعها قصةُ المنظمة نفسِها بوصفها الممثل "الشرعي والوحيد" للشعب الفلسطيني، انتهت إلى المطالبة بشيءٍ من بعضِ فتاتِ ما بقي من فلسطين الغالية عبر الاستجداء والركوع تارةً لأوروبا وتارةً لأمريكا من أجل أن تُمارس الأخيرةُ ضغطاً على دولة يهود المعتَرف بها دولياً لعلها تقبل لأصحاب السلطة الوهمية بشيءٍ من الأرض ليقيموا عليه بعضَ ما أوهم قادةُ المنظمة شعبَهم وشعوبَ المنطقة على مدى أكثر من خمسين عاماً بتحقيقه من خلال مسيرة طويلةٍ كان أولها الكفاح المسلح ووسطها سلام الشجعان المهين وآخرها التنسيق الأمني مع العدو والتآمرُ على أهل فلسطين بعد تسليمها له!! هذا وقد وصل العبثُ بأصحاب المنظمة أن سبق وأعلنوا في الجزائر بتاريخ 15/11/1988م عن قيام دولة فلسطينيةٍ وهميةٍ بعد أن ذهب - عبر التآمر والخيانة - معظمُ فلسطين وتشرد أهلُها وتشتت أبناؤها في بقاع الأرض كلها.
أدرك جميع الناس الآن أن منظمةَ التحرير الفلسطينية، المدعومة مالياً من جميع الجهات، من عرفات إلى عباس إلى كلِّ مَن سيأتي بعده على رأس السلطة المتآمرة المنفِّذة لكل أجنداتِ الغرب ومؤامراته على أرض فلسطين، صناعةٌ غربيةٌ لا شأن لها بتحرير فلسطين، إنما هي أداة علمانية رخيصة وماكرة بيد الأمريكيين والأوروبيين ودولة يهود ذاتها، ولم يعد يخفى اليوم على أحدٍ أن عباس وزمرتَه كانوا في الحقيقة منذ بدايتهم في خدمة الاحتلال ومَنْ وراءه وتحت أوامره ورهن إشارته، كما أن مصالحهم هي من مصالحه، رغم إخلاص المخلصين من فتح ومن غير فتح لفلسطين الأرض والوطن، تجري من خلالها في الظاهر تمثيليةُ استرجاع حقوقِ أهل فلسطين بعدَ ما حل بهم من نكبة 1948م ونشوء كيان يهود وما تلى ذلك من نكباتٍ ونكساتٍ متتالية، من ضياع بعض فلسطين إلى ضياع معظمِ فلسطين وتشريد أهلها، إلى خسارة كل شيء! فلا قدس ولا أرض ولا دولة ولا عودة، ومسيرة السلام - الخيار الاستراتيجي للسلطة الوهمية - متواصلةٌ تشق عبابَ البحر وتقهر الزمن، ولا بديل عند أصحابها عن التفاوض والخنوع، وغصن الزيتون لم يسقط، بل أبى أن يسقط!! وفي هذا السياق تجدر الإشارةُ إلى أنه لا يتسع المقام هنا لسرد قصة حركة حماس المحزنة هي الأخرى رغم إخلاص مقاتليها تحت شعار المقاومة في غزة، وهي التي بدأت شيئاً فشيئاً تقترب من صف الاعتراف وقافلة التطبيع، كما هو حال ذراع إيران في لبنان تحت عنوان الممانعة والمقاومة، خصوصاً بعد الاتفاق الأخير على ترسيم الحدود البحرية الذي وقَّعه لبنان مع كيان يهود لشرعَنتِه في المنطقة وتثبيته. فهل من منقذٍ للأمة غير عودة الخلافة!!
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾
رأيك في الموضوع