لعل أبرز ما كشفتْه الحرب على غزة هو أن ملياري مسلم لا يستطيعون فعل شيء نصرةً لإخوانهم المسلمين في غزة وإنقاذهم من الإبادة! ما السر؟؟ لا يختلف مسلمان في أنه لو كانت دولة الخلافة قائمةً لكان الحديث مع أمريكا مختلفاً، ولما كانت أعمالنا ردودَ أفعال فقط، بل لما تمكن الغرب أصلاً ولو مجتمعاً من اقتطاع أرضٍ من بلاد المسلمين - من أغلى بلادهم - ومنحها لأشد الناس عداوةً لأمة محمد ﷺ لينشئوا فيها كيانا سرطانياً خبيثاً معادياً للأمة، بل خنجراً مسموماً في خاصرتها.
ولا شك أن زوال الدولة القائمةِ على العقيدة الإسلاميةِ (دولة الخلافة)، أحدث في بلاد المسلمين انتكاسةً مروعةً على جميع المستويات! فإن ما حصده المسلمون جراء الفصل بين الدين والسياسة في بلادهم - والذي لا يعني على أرض الواقع سوى ذهاب دولة الخلافة التي ترعى شؤونَ المسلمين - هو الضياع والانحدار والتخلف والفوضى والدمار والذلة والاستعمار!! وهو ما يعني أيضاً ضياع الأرض والعرض، وضياع المقدسات والمكتسبات، وتعطيل كل الطاقات في جميع المجالات!!! وهو المشاهد من حال الأمة اليوم. أَوَليس هذا هو الواقع المشاهد فعلاً؟!
فالمسألة الجوهرية إذن هي أن نشوء الكيان حدث على خلفية تكريس وبسط الهيمنة الاستعمارية الغربية على كل البلاد وعلى الشعوب الإسلامية كافةً عقب الإجهاز على الكيان الجامع والممثل للمسلمين على المستوى العالمي سنة 1924م. وهذا تحديداً هو ما يجب ألا يغيب أبداً عن ذهن كل مسلمٍ على وجه الأرض، وهذا هو قطب الرحى في الصراع، كما أن إغفالَه سيعني حتماً أن الصراع مع المستعمِر سيكون جانبياً.
كما أن هذه الحرب في غزة أظهرت أن كيان يهود رغم كل الدعم الغربي الذي يصل إليه من كل أصقاع المعمورة، وخاصةً من أمريكا بوصفها الداعم الرئيسي الحاضن له، أنه ليس بتلك القوة التي صنعها له الغربُ بالخداع السياسي عبر الإعلام وغيره، إذ الغرض من ذلك كان وما زال صنع هزيمة نفسيةٍ عند المسلمين مفادها أن الأمة الإسلامية قد أخذ الضعفُ والهوان منها كل مأخذ، بل ربما قد ماتت أو أشرفت على الموت، وأنه لا مناص إذاً من التطبيع مع كيان يهود وقبوله في المنطقة، ما جعل مجردَ تصور إمكانية التفوق عليه أو هزيمته عسكرياً أمراً مستبعداً إن لم يكن مستحيلاً! ناهيك عن إمكانية قهر مَن يقف وراءه من القوى الغربية مجتمعةً! وهو ما يعني لزوم استسلام المسلمين التام وتسليمَ المفاتيح والانبطاح الكامل لقوى الغرب الرأسمالي الاستعماري الحاقد.
بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فقد أحيتْ هذه الحربُ روحَ الجهاد في الأمة بأسرها، وبرهنت على أن ثلةً من بعض جيوش المسلمين قادرةٌ على إزالة الكيان الجبان في معركة واحدة فقط، مهما بلغ حجم الدعم الذي يأتيه من الغرب، إذا ما تحررت إرادةُ الجيوش من قبضة الحكام العملاء. وها نحن أمام الحقيقة الساطعة؛ أن أمة الإسلام أمةٌ واحدة في كل أصقاع الأرض، وأنها حية لن تموت، ولكنها مكبلة بواسطة الحكام العملاء!! كما كشفت أن كيان يهود ليس دولة رعايةٍ حقيقة، لا لليهود ولا لغير اليهود على أرض فلسطين، وإنما هو كيان همجي وظيفي حقير أوجده الغربُ لأداء مهام محددة ومتعددة لصالح الغرب عدوِّ الإسلام والمسلمين، ترعاه أمريكا تحديداً. وأنه أداة من أهم أدوات الغرب الاستعمارية الكثيرة لإبقاء نفوذه وهيمنته على بلاد المسلمين لنهب خيراتها، وذلك بالتنسيق الكامل مع حكام المنطقة الخانعين. وقد فضحتْهم جميعاً هذه الحربُ في غزة، حيث تبين أن حال المسلمين بعد زوالِ الخلافة تتمثل بالفعل في أن حكامَهم في صف أعدائهم.
وبعد كل بضع سنواتٍ يتكرر المشهد المروع ويتجدد القصف الوحشي من البر والبحر والجو من الكيان المسخ على غزة البطولة والصمود المحاصرة، وتتكرر المأساة! ثم تَـحُلُّ جراء ذلك الأوضاعُ الكارثية خاصةً على المدنيين من أهل القطاع بعد انقطاع الكهرباء وتكدس النفايات وانعدام الغذاء والمياه الصالحة للشرب وجميع أسباب الحياة، ويتصدر إعلاميو الفضائيات عمليةَ إحصاء وتيرة القصف وعدد الغارات والشهداء وأعداد القتلى والجرحى خصوصاً من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ الأبرياء والأبراج السكنية المهدمة والبنايات المنهارة والمستشفيات المدمرة في غزة.. ثم يُتوصل بعد جهود الوساطات والاتصالات الحثيثة إلى هدنة قد تدوم سنوات!
ولكن مما يجدر لفت النظر إليه في هذا الظرف العصيب هو جعل ذراع حماس المسلح - كتائب القسام - ومعه بعض أذرع الفصائل الأخرى، هو الذي يواجه عسكرياً غطرسةَ العدو وترسانته العسكرية تحت شعار المقاومة من غزة المحاصرة، بدل الأمة كلها بتحميل المسؤولية لكل الدول القائمة في بلاد المسلمين، أي لحكامها وبالأخص لقادة جيوشها، هذه الجيوش المتكونة في أغلبها من أبناء الأمة التواقين للاستشهاد في سبيل الله على درب السلف من أجل دحر العدو الظالم ومَن وراءه من أعداء الأمة، وحل القضية حلاً جذرياً بافتكاك فلسطين من أنياب ومخالب المستعمِر الغربي الغاشم.
نقول هذا ونحن نعلم وندرك تماماً مدى ارتباط كافة الأنظمة بالغرب هي الأخرى! وهنا مربط الفرس، إذ إن كثيراً ما يغلب على أصحاب الواقعية الحلولُ الفردية الآنية في الصراع خصوصاً أثناء المواجهة وتناثر الأشلاء والدماء بحجة أن حكام المسلمين - والدول العربية خاصةً - لا يُنتظر منهم شيء لنصرة القضية كونهم عملاء للغرب ميؤوساً من أمرهم، وأن الشعوب العربية تائهة مغلوبة على أمرها، وهو ما يعني في نظرهم وجوب الانصراف عن هؤلاء الحكام بل وعن الجيوش أيضاً، إلى ما باستطاعة أفراد الشعوب المسلمة وآحادِ الأمة تقديـمُه من مساعدة وجهد، كلٌّ على مستواه نصرةً لأهل فلسطين؟
فهل يصح هذا الطرح الواقعي الذي يتجاهل وجوب التصدي جماعياً من خلال الأحزاب والتكتلات السياسية وجيوش الأمة بوجه خاص لإزاحة هؤلاء الحكام الذين لا يُنتظر منهم شيء في الذود عن الأمة ودينها وأرضها وعِرضها، ويُتوقع منهم كلُّ شيء في منع الجيوش من التقدم ولو خطوةً على درب تحرير فلسطين من يهود، كما يتجاهل كلياً خلفية نشأة كيان يهود ذاته على أرض فلسطين؟!!
لتتكرر المأساةُ بكل آلامها وويلاتها في مشهد رهيب مروع بعد كل بضع سنوات، ولا يتحقق في حقيقة الأمر بعد كل مواجهة على أرض الواقع شيءٌ كبير مما تصبو إليه الأمة حقيقةً، رغم كل تلك التضحيات من الأرواح والشهداء، في لعبة سياسيةٍ دولية من قِبل كل الأطراف إقليمياً ودولياً لصرف الأذهان والجهود عن قضية الأمة الأساسية، التي تتحرر بها كل بلاد المسلمين ومنها أرض الإسراء والمعراج، وتنفك بها عن الأمة سائرُ القيود والأغلال، وتدك بها كل عروش الطغاة، ألا وهي وجوب إعادة دولة المسلمين أولاً، لتتحرر بها فلسطين وغيرُها!
رأيك في الموضوع