إن من المعلوم لدى أبناء الأمة الإسلامية، من الواعين والغيورين على الهوية والثوابت، أن المستعمر الغربي حرص بعد هدمه الخلافة على ألا يسير المسلمون إلا وفق ما يريد ويخطط، لئلا تثار مسألة إعادة الخلافة من جديد. فكان إقصاء الإسلام من ثورات الشعوب المسلمة بإبعاده عن مطالبها أبرزَ تجليات مصابهم هذا منذ عقود، وذلك عبر المطالبة بالدولة الديمقراطية المدنية وبالحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة بدل حكم الإسلام وشريعته كلما ثاروا في وجه الحكام الظلمة ومن وراءهم.
وقد كان من أدوات تنفيذ ذلك أن تأسست في لندن قناة فضائية باسم "المغاربية" في تشرين الثاني/نوفمبر 2011م، وشرعت في بث برامجها يوم 16/12/2011م. وقد أعلنت حينها أنها قناة موجَّهة بنسبة 50 إلى 60 بالمئة من شبكتها البرمجية للمشاهد الجزائري، كما أعلنت بحسب صفحتها الرمزية أنها قناة تلفزيونية فضائية مستقلة تعمل على تسليط الضوء على القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهم الناس في المنطقة المغاربية (شمال أفريقيا)، وأنها تهدف من خلال مختلف موادها الإعلامية إلى مد جسور التواصل والتفاهم بين شعوب المنطقة والمساهمة في تكريس حق الناس في الوصول إلى المعلومة الصحيحة، وفي متابعة خدمة إعلامية تعتمد الرصانة والموضوعية، وأنها تركز على المهنية والحرفية وتضمن حرية التعبير وتبرز الرأي والرأي الآخر.
كما أنها - وهي تقدم خدمتها الإعلامية للجمهور المغاربي في الصغيرة والكبيرة مما يحدث في المنطقة المغاربية وفي العالم - تسعى لأن تكون قناةً لتواصل الشعوب المغاربية يطَّلعون من خلالها على واقعهم دون تعتيم أو تزييف، ونافذة يطلون منها على العالم وتجارب شعوبه، كما تفتح المجال أمام جمهورها للمساهمة في نصرة القيم الإنسانية وتعزيزها، وعلى رأسها الحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
ومن الواضح أن تأسيسها وظهورها في الساحة الإعلامية كان على خلفية التحركات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية، في خضم أحداث الربيع العربي أو الثورات العربية على الأنظمة العميلة المرتبطة بالغرب. ومن الواضح أيضاً أن الغرض من إنشائها كان وما زال تفويت فرصة التغيير الحقيقي على الشعوب الإسلامية في الشمال الأفريقي، فرصة التغيير الجذري الذي لن يتحقق إلا بالعودة إلى الإسلام على مستوى الحكم. لذا كان من أبرز اهتماماتها التركيز على مطلب الحرية والديمقراطية والشرعية الشعبية من خلال بلورة مفهوم الدولة المدنية التي تكرس فكرةَ رابطة المواطنة مكان رابطة العقيدة، وتكرس الفصل بين الدين والسياسة وحريةَ المعتقد، وفكرةَ إبعاد العسكر عن السلطة بدعوة الجيوش إلى الخروج من حقل السياسة والانسحاب إلى ما وراء جدران الثكنات!! وهذه بلا شك أفكار مغرية للكثير من الشرائح في المجتمعات المقهورة.
وفي زمن سطوة الإعلام الموجَّه ودوره المحوري كأداة في ممارسة السياسة والتأثير في المشهد، وفي عصر المعلوماتية والفضائيات ومنصات التواصل، فإن هذه الخدعة - إنشاء مؤسسات إعلامية فضائية بمثل هذه المواصفات والمهمات المحددة - تعد من أذكى وأمضى أساليب الإنجليز في السياسة؛ لذا وجب من هذا المنبر القيام بمهمة كشف دور قناة المغاربية التي ما فتئت تبث للمسلمين من لندن وباريس سموماً فكريةً ورؤى سياسية قاتلة ستتضح من خلال هذه المقالة، ومعها سموم أخرى مدمرة يصعب حصرها. نعم وجب تعرية دور المغاربية الناطقة بالعربية والأمازيغية والفرنسية والموجّهة أساساً للجمهور في الجزائر، ودور مثيلاتِها من المؤسسات الإعلامية اللندنية المأجورة، وهي كثيرة، كقناة المستقلة مثلاً المقدِّسة للديمقراطية الغربية على طريقة الإنجليز والموجَّهة بالأساس للجمهور في تونس. نعم لزم فضح المهمة التي تضطلع بها "المغاربية" تحديداً، ألا وهي خدعة دفع الجماهير في شمال أفريقيا إلى التشبث بالوهم، خاصةً في الجزائر الوازنة إقليمياً في المنطقة، الواسعة جغرافياً وديموغرافياً وذات الأهمية والثقل السياسي بالنسبة للغرب الأوروبي، فرنسا وبريطانيا خاصة.
إن قناة المغاربية، وهي تركز على مجريات الأحداث في الجزائر تحديداً، تلتزم خطّاً فكرياً وسياسياً محدَّداً لا تحيد عنه وتتبنى رؤية إعلامية خبيثة خطط لها الإنجليز بعناية، تماماً كما خططوا من قبل لمهام قناتي الجزيرة والحوار وغيرهما من المؤسسات ذات الأهداف السياسية، باستخدام المال والدهاء والسياسة، مستهدفةً عقل مسلمي المنطقة بالطرق الناعمة والأساليب الخفية لصرفهم عن دينهم وعقيدتهم المناهِضة لقيم الغرب ومفاهيمه وحضارته جملةً وتفصيلاً، ولإدامة أوضاعهم التعيسة لصالح المستعمر الغربي الأوروبي أطول ما يمكن من الزمن. تفعل ذلك مع مشاهديها ومحبيها ومتابعيها وهي ملتزمة بفلسفة أجندتها وموهمة أهل البلاد في الوقت ذاته بأنها مهتمة بقضاياهم ومشاكلهم ومنشغلة بمآسيهم في الصغير والكبير من الوقائع والأحداث، وفي كل ما يلقوْن من بطش ساستهم وظلم حكامهم، وذلك من خلال محورين اثنين:
الأول هو خدعة إبعاد الأيديولوجيا عن المشهد، ما يعني عملياً إخراجَ الإسلام من ساحة الصراع بإبعاده عن مطالب الناس وفصل الدين عن حياة الأمة، علماً أنه لا نهضة للمسلمين ولا علاج لمشاكلهم ولا تحرر ولا عزة ولا وحدة ولا قوة بدون الإسلام عقيدة ونظام حياة. والغرض من ذلك هو دون شك الحيلولة دون عودة نظام الإسلام إلى واقع الحياة في بلاد المسلمين.
وأما الثاني فهو خدعة إلغاء دور الجيوش في بلاد المسلمين من عملية التغيير، التي تستوجب إقامةَ كيان الأمة السياسي على أساس هويتها وعقيدتها. وذلك بحجة أن الدولة لا بد أن تكون مدنية وديمقراطية، وبحجة أن هذه الجيوش وأجهزتها الأمنية هي ذراع المستعمِر في قهر الشعوب، إذ كانت دوماً تقف في صف الأعداء المستعمرين، خاصة في محطات الصراع والصدام مع الغرب وعملائه، وأنها كانت وما زالت تمثل أيادي البطش الآثمة لدى الحكام الدكتاتوريين العملاء في مواجهة الشعوب الإسلامية والتحكم في مصائرها.
فمن خلال محتوى البرامج والأخبار والمواضيع التي تتناولها هذه الفضائية وتختارها بعناية كبيرة وتقدمها للمشاهد، سواء ما تعلق منها بالطب والصحة والغذاء، أو بالتعليم والثقافة والفنون والرياضة والطبخ والأسرة وقضايا المرأة والهجرة ومشاكل العمال والأجور، أو حتى بالكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وغيرها، ومن خلال نوعية الأشخاص الذين تستضيفهم على شاشتها من سياسيين ونشطاء وإعلاميين ونقابيين وحقوقيين وعلماء ومفكرين، يجري تكريس العلمانية - بغير اسمها - بأساليب ذكية ومدروسة، كما يجري تثبيت أركان الدولة الوطنية، عبر التسليم بشرعيتها وحتمية بقائها واستمرارها في بلاد المسلمين، مع التسليم أيضاً بالجغرافيا الحالية وقواعد المنظومة الدولية والحدود الوهمية، وتقديس الأعلام والأناشيد الوطنية، بهدف ترسيخ واقع التقسيم والهوية الوطنية على مستوى الفكر والشعور في عقول المسلمين وقلوبهم. تفعل ذلك مع إبراز الفروقات حتى داخل الدولة الوطنية الواحدة نفسها باسم التنوع الفكري والثراء الثقافي والاختلاف في الانتماء العرقي واللغوي والجغرافي بين سكان المنطقة، خاصة الجزائر. ما يعني عمليّاً استحالة عودة الأمة أمةً واحدة تحت راية الإسلام كما أمر رب العزة، واستحالة إلغاء الخطوط والموانع الوهمية التي وضعها الاستعمار بين الشعوب المسلمة، وأن الحل إذاً يكمن حتماً في تدعيم ركائز الدولة الوطنية وترسيخ مفهوم الدولة المدنية وتثبيت فكرة المواطنة، التي تتجاوز كل أصناف التوجهات والاختلافات بين البشر، بنظر مؤسِّسي القناة ومموليها وداعميها.
وسيبقى وهم الدولة المدنية الديمقراطية مطلب الجماهير وحلم المضبوعين، تحت سقف الدولة الوطنية التي مزقت بلاد المسلمين وفرقت الأمة وشتتت شملها وأبعدتها عن حمل رسالتها، إلى أن تعود الأمة إلى رشدها، أي إلى أن يعود الوعي السياسي من زاوية الإسلام إليها، فتقيم الدولة على أساسه، وترجع إلى سابق عزِّها.
...يتبع
رأيك في الموضوع