تزامناً مع الذكرى الـ68 لاندلاع ثورة التحرير الجزائرية، استضافت الجزائر يومي الثلاثاء والأربعاء 1 و2/11/2022 اجتماعَ مجلس جامعة الدول العربية في الدورة الـ31، وكان من أبرز ما ميَّز هذه القمة أنه جرى فيها توظيف الماضي الثوري للجزائر وكفاح شعبها ضد الاستعمار الغربي ممزوجاً بالعروبة ومسحة من الإسلام، إلى جانب ما جاء في الإعلان الصادر عن القمة من ذكر "التاريخ المشترك ووشائج التضامن العربي الذي تجلَّى في أبهى صوره من خلال التفاف الشعوب والدول العربية حول نضال الشعب الجزائري إبان ثورة الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر 1954 وما تخللها من تضحيات الأشقاء العرب في نصرة إخوانهم الجزائريين"، كما وظفت فيها فكرة التوافق وشعار "جمع شمل الأسرة العربية" بما يتفق مع ما يراد أوروبياً أن يلعبه النظام الجزائري على الساحة الإقليمية عربياً وأفريقياً.
ومن المعلوم أن جامعة الدول العربية التي تضم 22 دولة كانت تاريخياً ومنذ نشأتها قد وَضعت مسألةَ دعم القضية الفلسطينية ومقاطعةَ كيان يهود الذي أُنشئ بإرادة دولية على أرض فلسطين سنة 1948 على رأس أولوياتها. ولكن من اللافت أنه منذ انعقاد القمة العربية الماضية قبل 3 سنوات في العاصمة التونسية خلال شهر آذار/مارس 2019، شرعت العديد من الدول العربية في مباشرة عملية تطبيع غير مسبوقٍ مع كيان يهود، دشَّنـتْها الإمارات سنة 2020 ثم حذت حذوها البحرين والمغربُ ثم السودان. وقد برزت بشكل متباين تداعيات هذا التقارب المشين مع كيان يهود في سياق هذه القمة والذي منه الاتفاقيات الأمنية التي أبرمها المغرب مع الكيان المسخ، خاصةً وأن الجزائر تُعد تاريخياً بحكم النضال المشترك ضد الاحتلال من أبرز المؤيدين لقضية فلسطين.
ولكن الجزائر أُريد لها أوروبياً بعد أن حققت استقراراً داخلياً نسبياً منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدة الرئاسة نهاية 2019م أن تنتقل إلى "السرعة الثانية" من النشاط الدبلوماسي والعمل السياسي المكثف خاصةً على الصعيد الخارجي، أي على المستوى العربي والأفريقي، أملاً في تفعيل دورها في الجوار الإقليمي أيضاً عسكرياً وأمنياً لفائدة الأوروبيين. وهذا في الحقيقة هو أبرز ما سعى النظام الجزائري لتحقيقه من إنجاح القمة العربية ومن استغلال احتضانها إلى أبعد حد في هذا الظرف. لا سيما وأن إعلانَ الجزائر عقب زيارة المسؤولين الفرنسيين الأخيرة لها كان قد نص على أن الشراكة المميزة الجديدة، خاصةً مع فرنسا، باتت "مطلباً يمليه تصاعد التقلبات وتفاقم التوترات الإقليمية والدولية".
والواقع هو أنه رُوِّج في الحقيقة لقمة الجزائر بأنها جامعة وناجحة قبل انعقادها! وقد افتتحت أعمالها، قبل تسليم الكلمة لرئيس الجزائر، بكلمةٍ لرئيس تونس قيس سعيد بوصفه رئيس الدورة الماضية، دعا فيها إلى "تجاوز الخلافات بين الدول العربية ولمّ الشمل من أجل الانتصار على من يشنون حرباً ضروساً لإسقاط الدول". وقد أكد الجميع على أن "القمة محطة هامة لتعزيز التضامن العربي"، كما أكّدوا على الدعم المطلق للشعب الفلسطيني وعلى "مركزية القضية الفلسطينية"، وضرورة الوصول إلى حلول سياسية توافقية لكل النزاعات والقضايا الشائكة في البلدان العربية أبرزها على وجه التحديد قضية سوريا وليبيا واليمن والسودان. بينما أكدت الجزائرُ بدورها من خلال رئيسها ووزير خارجيتها على ضرورة "لم الشمل" ومسألة "التضامن العربي" وأن هذه القمة "نوفمبرية من حيث الطموح الذي أردنا تحقيقه"، لأن "نوفمبر رمز التحديات والحرص على لـمِّ الشمل"، وعلى توحيد الشعب الفلسطيني بكل فصائله وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. كما أكد وزير الخارجية رمطان لعمامرة على دعم الجزائر "لحصول فلسطين على العضوية الكاملة في هيئة الأمم المتحدة" كدولة مستقلة على حدود الرابع من شهر حزيران 1967، ضمن ما سمي المبادرة العربية (الأرض مقابل السلام)، وهو ما أكد عليه السيسي أيضاً بشكل بارز من خلال كلمته، ما يعني في الحقيقة الاعترافَ الصريح من منبر الجزائر الأبية بالكيان الغاصب وإقراره على معظم أرض فلسطين، كما تناولت القمة ملفات عديدة منها مسألة التدخل في شؤون الدول العربية ومشكلة الأمن الغذائي والتعاون والتكامل الاقتصادي بين الدول العربية، حيث أشار تبون إلى خطر الأمن الغذائي في المنطقة العربية في ظل تقلبات الأسواق العالمية وتداعيات الجوائح والنزاعات الإقليمية والدولية، منها الحرب الحالية في أوكرانيا، وأنه "يتعيَّن علينا بناء تكتل اقتصادي عربي منيع يحفظ مصالحَنا المشتركة".
ولكن الحقيقة هي أن الخلافات والتناقضات تحت شعار التضامن الفارغ من أي معنى سوى التآمر على الشعوب المسلمة المقهورة، وتحت عنوان التنسيق المشترك وتثمين المبادرات من جميع الأعضاء المشاركين في الاجتماع، قد خيَّمت في واقع الأمر على أعمال القمَّة من البداية إلى النهاية. فمثلاً، وبحسب بعض المصادر من الجامعة العربية، فإنه كان من الصعب على وزراء الخارجية التوصل إلى صيغة توافقية نهائية للبيان الختامي للقمة إثر خلافات حول نقاط محددة منها التنديد بالتدخل التركي والإيراني في شؤون الدول العربية، منها اليمن وليبيا وسوريا ولبنان، حيث أصرَّ بعض القادة على ذكر الدولتين (المتدخِّلتين) بالاسم في الإعلان الختامي بينما رفض آخرون. كما برز خلال القمة أن كلَّ دولة كانت في الحقيقة تحمل أجنداتٍ خاصة وفق مصالحها وارتباطاتها، علماً أن هذا ليس جديداً، إذ كان هذا هو دأبها في القمم السابقة كلِّها. إلا أن الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط أكد على نجاح القمة وأنها الأعلى من حيث مستوى التمثيل، مشيراً إلى أنه "غابت التحفظات كلياً من قمة الجزائر"!! وبينما غاب عن القمة ولي العهد السعودي (الحاكم الفعلي للمملكة) ورئيس الإمارات وملكُ البحرين والعاهل المغربي، كان من أبرز الحاضرين في القمة أميرُ قطر ورئيس السلطة الفلسطينية والرئيس التونسي والرئيس المصري، إلى جانب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة كضيف شرف. كما حضرت روسيا من خلال رسالةٍ للقمة من الرئيس بوتين بدا فيها كأنه يستعطف الجميع لدعمه في محنته، حيث تحدث الرئيس الروسي في الرسالة عن ضرورة تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب، مشيراً إلى استعداد بلاده لتعزيز العلاقة مع جامعة الدول العربية ومع كافة أعضائها.
وتشير بعض المصادر إلى أن محاولات الجزائر في الكواليس إعادةَ سوريا إلى الجامعة العربية كانت مناورة سياسية، حيث تخلت عن المبادرة بعد التفاهم من النظام السوري نفسه خلال زيارة وزير الخارجية الجزائري لدمشق قبل القمة بأيام، وذلك بالنظر إلى أن الظروف الدولية غير مناسبة وأن الأوضاع الراهنة في المنطقة لا تسمح بوجود سوريا في القمة، كما أنها اصطدمت مع رغبة الجزائر في إنجاح القمة والمحافظة على "وحدة الصف العربي". للتذكير فإن سوريا-بشار الأسد جرى تعليقُ عضويتها في الجامعة العربية نهاية 2011 مع بداية الثورة السورية على نظام الإجرام الذي تجاوز كل الخطوط في قتل شعبه المسلم، وها هو اليوم بدأ مسيرة العودة ولو من بعيد لأحضان الجامعةِ العربية التي لا تمثل في الحقيقة إلا مشروعاً استعمارياً بغيضاً، ولا تتكرس من خلاله سوى أجندات الغرب الحاقد في البلاد الإسلامية وسياسات العدو المستعمِر ومصالحه.
لذا بات يتعين إزاحة هؤلاء الحكام الأقزام عن المشهد، وهم الذين دأبوا على مدى عقود على تسويق الخيانات على أنها إنجازات وتمرير الإخفاقات على أنها نجاحات، وذلك بأن تجد الثلة الواعيةُ طريقَها من خلال الأمة لتتصدر الأوساط السياسية في هذه البلدان بالإسلام الذي يمثل هويةَ الأمة الحقيقية، وتتقدم لأخذ قيادة الأمة فيها بالإسلام لا بغيره، ويومئذ يفرح المؤمنون.
رأيك في الموضوع