بدايةً لا بد أن نعرج سريعاً على مفهوم "الإسلام الوسطي"، الذي جعل منه الغربُ إحدى القوائم الثلاث للدولة الوطنية في بلاد المسلمين، ليتبين مدى ارتباط نشأته ونشأة الدولة الوطنية نفسها، بمأساة هدم الخلافة. فيجد المدقق فيما سُمي الإسلام الوسطي، الذي انبثق عنه منهج الاعتدال في الدعوة وفي النظرة لواقع الأمة الإسلامية ولشؤونها كافة، يجد أنه عبارة عن منظومة فكرية كاملة الأركان والأهداف لها مرجعيتها ومؤسساتها، كما أن لها مراجعها ومنظريها وعلماءها. وهي بالمجمل متصالحة مع العلمانية (فصل الدين عن الدولة) التي تمثل عقيدة الغربيين ونمطَ حياتهم، ومنسجمة إلى حد بعيد مع الأوضاع السياسية الدولية التي نشأت على أنقاض الخلافة الدولة الجامعة للمسلمين. والدليل على ذلك هو أن أصحاب هذه المنظومة، سواء أكانت على شكل تيارات وجمعيات وأحزاب وحكومات، أو حتى على شكل مؤسسات اقتصادية ومراكز فكرية وثقافية وهيئات إعلامية، هم اليومَ جزء من أنظمة وأجهزةِ الدول الوطنية (العلمانية) التي حلت محل دولة الخلافة. والحقيقة أن الإسلام الوسطي هو أفكار علمانية بمسحة إسلامية، وقد لعب في بداية القرن الماضي دورَ "مخفف الصدمات" لدى شعوب الأمة الإسلامية من هول صدمة زوال دولة الخلافة. والحقيقة هي أيضاً أنه صُمم بإحكام في الغرب خلال القرن التاسع عشر الميلادي على يد بريطانيا الدولة الأولى في العالم آنذاك تهيئةً لهدم كيان الأمة الإسلامية أولاً فكرياً وثقافياً، وذلك عبر الترويج له وتسويقه في كافة بلاد المسلمين بواسطة العملاء الفكريين والسياسيين عبر تلك المؤسسات ومختلف الأدوات خاصةً المؤلفات على أنه هو الإسلام الأصيل، وكذلك استباقاً لتداعيات عمليةِ هدم كيان الأمة سياسياً، واستباقاً لما كان سينجم عن ذلك من أوضاع جديدة وأمور خطيرة في بلاد المسلمين، أي بغرض أن يملأ الفراغ الفكري-السياسي الرهيب المتوقّع أن ينجم عن هدم الخلافة، ولكي يُشكِّل المرجعية السياسية للدول القومية والوطنية التي ستنشأ بعد ذهاب الدولة الجامعة التي ظلت تمثل المركز الجيوسياسي عند الأمة الإسلامية أزيد من 13 قرناً. وهو ما حصل بالفعل مع بداية القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى.
لذا كان من أبرز سمات الإسلام الوسطي منذ ظهوره في بلاد المسلمين ثلاثة أفكار رئيسية، أولها التنكر للخلافة. فالدولة الوطنية (البديل عن الخلافة) عند أصحابها تُعتبر إنجازاً كبيراً تجب المحافظة والبناء عليه، أي خطوةً على طريق التحرر من المستعمِر، بينما النظرة المبدئية الواعية تقول إنها ليست إنجازاً بالمرة، بل هي امتداد لحكم المستعمِر، أي هي مشروع استعماري جديد يعوق الرقي والتقدم إذ يكرس الهيمنةَ الغربية ويمنع الوحدة والتحرر، وبالتالي يجب هدمها فكرياً وسياسياً لتحل محلها طبيعياً في بلاد المسلمين دولةُ المسلمين، أي الخلافة.
أما السمة الثانية للإسلام الوسطي فهي الإبداع في مسايرة الواقع، وهو ما يعني الإبقاء عليه بدل تغييره، ومن ذلك وهم المشاركة في الحكم في دول الضرار، والتدرج في الدعوة وفي تطبيق الشريعة بل وفي كل شيء! ومن أبرز تداعيات ذلك عدم الجهوزية للحكم كلما تحركت الأمة للتغيير من حالها من خلال ثوراتها، بسبب عدم التمرس في العمل السياسي وإعداد رجال الدولة منذ البداية، نتيجة الفصل بين الدعوة والسياسة، ولكن أيضاً بسبب دعم الدوائر الغربية لما أسموه التيار المعتدل ودفعه للواجهة ريثما تهدأ العاصفة دون أي رؤية لمعنى استلام الحكم وخطورته ولا إدراكٍ لمسؤولياته ومستلزماته وتحدياته، وذلك كلما ثار الناس على الأوضاع الفاسدة، لينقلب الأمل سريعاً خيبةَ أمل، إذ لا يخفى ما يعقب ذلك من إحباط في الأمة وتراجعات ونكسات. وقد تجرَّعت الأمة سيلاً منها طوال عقود. وأما السمة الثالثة وهي دون شك الطامة الكبرى، فهي جاهزية الأعداء للتوظيف السياسي.
فخلاصة قصة الدولةِ الوطنية في بلاد المسلمين هي أنها نشأت ابتداءً بإرادة غربية أوروبية مع بدايات الغزو الفكري والثقافي ثم الاحتلال العسكري والتقسيم الجغرافي والتمزيق العرقي، وتفعيل كل الاختلافات القومية والعرقية واللغوية وحتى الجغرافية في مكونات الأمة الإسلامية بشكل مقيت، وضرب جميع هذه المكونات بعضها ببعض، وذلك قبل اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة بزمن طويل، لما ضعفت الخلافة العثمانية وساءت أحوالُها وتراجع نفوذها على الساحة الدولية. ثم تكرَّست الدولة الوطنية سياسياً بقوائم ثلاث معوجة؛ الانتماء الجغرافي وبدعة الإسلام الوسطي والعلمانية. وقد جرى تثبيت أنظمتها وحدودها بعد ذلك على أسس فكرية وسياسية مستحدثة صُممت في مخابر الغرب لتكون مناقضةً لهوية الأمة الإسلامية على خلفية ردَّات فعلٍ عنيفة عسكرية وسياسية على شكل ثوراتٍ مسلحة على ظلم الاحتلال، فَقَدَ فيها المسلمون البوصلةَ تماماً، إذ تخللـتها في معظم الحالات تضحيات جسيمة من مقدرات الأمة من أموالها ودمائها وأرواح أبنائها كل في حدود (وطنه) أفضت في النهاية إلى حكم العملاء والوكلاء عبر خدعة الاستقلال المزعوم، بسلطة رمزية وسيادة وهمية، مستأسدة على الشعوب لكنها خانعة وخاضعة لأعداء الشعوب، تداخل فيها في أغلب الأقطار الصراع الدولي على بلادهم مع الرغبة الجامحة في التحرر، لكن وبسبب سموم الثقافة الغربية وعبثِ الأيادي الأجنبية، امتزجت فيها المطالب وتباينت فيها الشعارات بين الإسلام والحرية وكذبة الديمقراطية ووهم الدولة المدنية، ثم تبددت آمالها في النهاية على شكل أحلام وأوهام. أما على الصعيد الفكري وهو الأخطر والأهم، فقد كانت طبخة الإسلام الوسطي والانتماء الجغرافي ولعنة فصل الدين عن الدولة، وهي القوائم الثلاث المعوجة للدولة الوطنية كما أسلفنا، جاهزةً لملء الفراغ الناجم عن إقصاء الإسلام عن الحكم وبالتالي إخراجه من حياة المسلمين بهدم دولتهم، ليُشكِّل هذا الثلاثي المقيت ما يشبه الفكرة السياسية البديلة التي حلَّتْ محل مرتَـكَز دولة الخلافة، الذي هو الإسلام دون أية إضافة، إذ لا تطرف ولا اعتدال في الإسلام، ما أخرج المسلمين بذلك كلياً من حلبة الصراع الدولي، بقدر ما أدخلهم في مرحلة لا نظير لها من الضعف والهوان والتبعية والصغار، وفي حقبة مظلمة من اليُتم والضياع والانكسار؛ لذا كان العلاج لكل مشاكل الأمة الإسلامية على كافة الأصعدة إنما هو عودة الخلافة، التي ستنتشلها من براثن الدولة الوطنية.
قد يقول قائل إن الغربيين بعد عقود من الاحتلال وبسط الهيمنة عبر حكم عملائهم قد رسَّخوا في بلاد المسلمين الدولة الوطنية، كما رسَّخوا الإسلام المعتدل في نظر الكثير على أنه هو الإسلام الأصيل، ثم تربَّت عليه أجيال بواسطة العلماء والحكام الوكلاء، فأنى للمسلمين استعادة دولة الخلافة بعد أن صارت على أرض الواقع بل في عقول أكثرهم من معروضات المتاحف؟ والجواب على ذلك هو: إنها كذلك فقط عند المفتونين بحضارة الغرب ونمط حياته، وقد آن للمسلمين أن يعودوا إلى الإسلام كما نزل على سيد المرسلين ﷺ لا كما يريده متصالحاً مع نظرته ومصالحه.
ولا يسعنا إلا أن نؤكد من جديد على أن شكل الدولة في الإسلام إنما هو الخلافة، وأنها من أعظم أحكام شريعته وليست تاريخاً، وأنه لا بد من العودة إليها لتتحرر الأمة من أغلال الهيمنة والقهر، ونحن نعلم في الوقت ذاته أن الطريق وعر وشاق، وأن الكثير من أبناء الأمة قد بعُدت عليهم الشقة بسبب كيد الأعداء. فكما قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع «أَلَا إِنَّ كُلَّ رِباً مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ» أي باطل ومُهدَرٌ، وفي حديث آخر «أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»، فكذلك أيضا كل ما أحدثه الإنجليز وغيرُهم من أعداء الأمة في بلادها من محدثات مقيتة أو من طبخات مسمومة على مستوى الفكر والنظر والمعتقد، ومن ذلك الدولة الوطنية والفصل بين الدين والسياسة وبدعة منهج الاعتدال وجميع مُنبَثَقاته، وكل ما يُروج له من مفاهيم الغرب على أنه من الإسلام وهو ليس منه.
رأيك في الموضوع