العمل الجماعي لا يكون ناجحا إلا بتنظيم جهود وطاقات الأمة. وحتى تُجمع الكلمة، ويُنبذ الخلاف؛ شُرع حكم الإمارة في الإسلام، بَدْءاً من الإمامة العظمى (منصب الخلافة) إلى إمارة الأحزاب؛ التي تدعو إلى الإسلام، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
وحتى في سفر القلة أو سكناهم في الفلاة، شرع الإسلام أحكام الإمارة، فالرسول ﷺ أمر المسافرين، والذين يسكنون في الفَلَوَات، أن يُؤَمِّروا عليهم أحدهم، يكون أفضلهم، وأجودهم رأياً؛ ليتولى تدبير شؤونهم؛ لأنهم إذا لم يُؤَمِّروا واحداً صار أمرهم فوضى، قال رسول الله ﷺ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ»؛ أخرجه أبو داود، حديث حسن صحيح. وقال ﷺ: «وَلَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» أخرجه أحمد، حديث حسن.
وحتى في الأكل، ندب الإسلام الاجتماع على الطعام، فعن وحشيّ بن حرب، أنّهم قالوا: يا رسول الله! إنّا نأكل ولا نشبع. قال: «فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ؟»، قالوا: نعم، قال: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» أخرجه ابن ماجه وأبو داود بإسناد حسن.
والعمل الجماعي ليس غريبا على الأمة الإسلامية، فكل الأعمال التي أمر الله بها، الأصل فيها العمل الجماعي، حتى لم يستثنِ جُلَّ العبادات من ذلك، مثل: صلاة الجمعة، وصلاة الجماعة، وصوم رمضان في وقت واحد للأمة كلها، وكذلك الحج الذي يجمع أشتات الناس وأخلاطهم من أهل الإيمان في موضع واحد، وصلاة الجنازة، وكذلك العمل لاستئناف الحياة الإسلامية حتى يثمر، يجب أن يكون عملاً جماعياً، ولا يجوز أن يكون عملاً فردياً، لأن العمل الفردي لا يمكن أن يوصل إلى تحقيق الغاية، ولأن الفرد مهما سما عقله وفكره لا يمكنه أن يحقق هذه الغاية بمفرده، بل لا بدّ له من أن يعمل مع جماعة، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لذلك لا بدّ أن يكون العمل لإقامة دولة الخلافة، وإعادة الحكم بما أنزل الله، عملاً جماعياً؛ في كتلة أو حزب أو جماعة، وهذا العمل الجماعي يجب أن يكون عملاً سياسياً، لأن إقامة الخلافة، ونصب الخليفة عمل سياسي، ولأن الحكم بما أنزل الله هو عمل سياسي، أي السياسة هي: رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً، وتكون من الدولة والأمة؛ فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عملياً، والأمة هي التي تحاسب بها الدولة، قال النبي ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..» صحيح البخاري. وقال ﷺ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» صحيح مسلم.
واستثمار طاقات الأمة الإسلامية، لا بد أن يكون بالعمل الجماعي، كنصرة أهل القوة لإقامة دولة الخلافة، وإيجاد الرأي العام عند الأمة المنبثق عن الوعي العام، وكذلك العمل على تجميع القوى وتشكيلها وتنظيمها في أي منطقة، لا يكون ذلك إلا بالعمل الجماعي، مع ضرورة وضوح أهداف هذه التشكيلات.
وكذلك تظهر أهمية العمل الجماعي لاستثمار الطاقات في وقوع الكوارث الطبيعية؛ كالزلازل، والفيضانات، والأعاصير، والبراكين، وأمواج تسونامي، أو وقوع الكوارث غير الطبيعية؛ كالحروب التقليدية وغير التقليدية، والحرائق، والفيروسات المنتجة بفعل الإنسان.
فعمل الأمة الجماعي المنظَّم، يكون مثمرا ومحققا للنتائج بالسرعة المطلوبة، وبأدنى كلفة، والفوضى والارتجال، مضران بمصالحها، بل ويزيدان من معاناتها. قال الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾؛ فأمَرنا الله بالجماعة، ونهانا عن الفُرقة؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله في شرح هذه الآية: "فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْأُلْفَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ هَلَكَةٌ وَالْجَمَاعَةَ نَجَاةٌ" تفسير القرطبي.
لذا حثّ الإسلام المسلمين على العمل الجماعي، لنصرة الدعوة الإسلامية، وتحرير البلاد الإسلامية، وتوحيد الأمة الإسلامية، وتحقيق آمالها الكبرى في النهوض والبناء، وأداء دورها الرباني في هداية العالم إلى نور الإسلام. قال النبي ﷺ: «يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ» أخرجه النسائي بإسناد صحيح.
وقيام حملة الدعوة، بإصلاح المجتمع، ينجّيهم وينجّي المجتمع من الهلاك الجماعي، أو العقاب الجماعي، أو الضّيق والضّنك والقلق والشّرّ الّذي يصيب المجتمع، وحتى الصالحون يمسهم ذلك، إن لم يكونوا مصلحين، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.
والعمل الجماعي سواء أكان لإقامة دولة، أو لقيادة حزب، أو لأي عمل آخر مهما صَغُر، فلا بد له لكي يُكتب له النجاح من قيادة سياسية؛ تتحلى بالجرأة والوعي في اتخاذ المواقف، وأن يكون هدفها واضحا وضوح الطريق المُوصل لذلك الهدف، ويجب أن تقوم هذه القيادة على أساس العقيدة الإسلامية، فتُنظِّم طاقات الأمة الإسلامية، وتسير بها نحو تحقيق المشروع الواضح، الذي قدمته للأمة، والمنبثق عن عقيدتها، في الحكم والاقتصاد والاجتماع والقضاء والسياسة الخارجية، والذي يبين للناس حقوقهم وواجباتهم، ويبين للدولة حقوقها وواجباتها، وبناء على هذا المشروع، يعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، فتتم محاسبة الحكام إذا هم ظلموا وتعدوا.
والعمل الجماعي لا بد له من قيادة؛ أي إمارة، وبالإمارة تكون الجماعة والعمل الجماعي، ولا ينجح العمل الجماعي إلا بالطاعة بالمعروف، قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لَا إِسْلَامَ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ، وَلَا جَمَاعَةَ إِلَّا بِإِمَارَةٍ، وَلَا إِمَارَةَ إِلَّا بِطَاعَةٍ" أخرجه الدارمي في السنن.
بقلم: الأستاذ محمد صالح
رأيك في الموضوع