هناك أحداث قد تلتبس على البعض حينما تفاجئهم فلا يجدون الوقت الكافي لتقييمها تقييما صحيحا، وقد يقع البعض في خطأ التقدير والتقييم لا سيما عندما يكون الغموض وعدم اكتمال الصورة، ولا يكتشفون حقيقة الأحداث إلا بعد أن تبدأ الأمور بالتكشف والأحداث بالتجلي، فتتغير حينها الرؤية ويجري إعادة التقييم. وفي هذه المقالة نحاول أن نسلط الضوء على حادثة إعلان تنظيم الدولة للخلافة بعد مرور عام عليها، وتجلي الأمور أكثر فأكثر ليتمكن من أخطأ في التقدير والتقييم من إعادة تصور المشهد تصورا صحيحا.
فقد أصبح واضحا بعد مرور سنة على إعلان تنظيم الدولة، أنّ ذلك الإعلان لم يكن إلا لضرب المشروع الذي يسعى العاملون المخلصون في هذه الأمة لإنجازه، وهو نيل شرف إقامة الدولة التي بشر بها رسول الله eفي الحديث حيث قال «... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»، فبعد مرور سنة على ذلك الإعلان لم يتحقق من أمل الأمة في إقامة دولة خلافة على منهاج النبوة شيئا لصالحهم، بل على العكس من ذلك، فقد قزّم وشوّه تنظيم الدولة مفهوم دولة الخلافة في أذهان المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، بعد أنّ تمكن العاملون المخلصون بجهدهم الدؤوب عبر عقود وعلى رأسهم حزب التحرير من رسم صورة راقية لدولة الخلافة القادمة قريبا بإذن الله، من أنّها دولة عالمية مُهابة الجانب، تحيي الإسلام عقيدة ونظاما، فيعم العدل والأمن والأمان بين الناس، وتُحفظ دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، مسلمين وأهل ذمة، وتحمل الإسلام رسالة عالمية مخلصة للبشرية من نير الرأسمالية الجشعة، بعد كل هذه الجهود جاء تنظيم الدولة ليقدم للناس مسخا أسماه زورا خلافة، وقسم المسلمين إلى موالين له ومرتدين، وراح يثخن في دماء المسلمين، مقدما قتالهم على قتال عملاء أمريكا في سوريا والعراق، حتى ترسخ في أذهان الناس أنّ هذا التنظيم لم يوجد أصلا لقتال عملاء أمريكا في العراق وسوريا، بل على العكس من ذلك، فأعماله وجبهاته هي ضد من يقاتل عملاء أمريكا في العراق وسوريا.
إنّ واقع المناطق التي يتواجد فيها تنظيم الدولة أبعد ما تكون عن توصيفها بدولة مستقلة، علاوة على توصيفها خلافة على منهاج النبوة. فواقع الخلافة في الإسلام، وهي حكم شرعي، أنّها رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، ويجب أن يتوفر فيها أربعة أمور: بأنْ يكون سلطانهاً ذاتياً يستند إلى المسلمين وحدهم، وأن يكون أمان المسلمين فيها بأمان الإسلام، بأن تكون حمايتهم من الداخل والخارج حماية إسلام من قوة المسلمين باعتبارها قوة إسلامية بحتة، وأن تطبق الإسلام كاملاً وشاملاً، وأن تكون متلبسةً بحمل الدعوة الإسلامية، وأن يكون الخليفة المبايَع مستكملاً شروط انعقاد الخلافة. أما أن يتواجد التنظيم في المناطق التي ينتشر فيها في الليل ويختفي في النهار ويُقال بأنّ السيادة في تلك المناطق للدولة المزعومة!، فإنّ هذا جهل محض بواقع الدولة المستقلة وواقع دولة الخلافة التي تكون مسيطرة على البلاد، أرضها وسمائها، في الليل وفي النهار. أما الأمان، فإنّه يعني حماية دماء وأموال وأعراض الناس في الدولة من أي اعتداء داخلي أو خارجي، وهذا يتنافى مع واقع المناطق التي يتواجد فيها تنظيم الدولة، حيث هي ساحات قتال تنتشر فيها قوات النظام العميل في العراق وحشده الشعبي، وتنتشر فيها قوات نظام بشار، وتجوب طائرات قوات التحالف سماء تلك المناطق بلا رادع لها أو حتى القدرة على ذلك. أما تطبيق الإسلام، فالإسلام يطبق في دولة الخلافة من خلال بناء أجهزة تنفذ أحكام الإسلام بشكل عملي متين، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، فتكون هناك دار للخلافة، يكون فيها الخليفة ومعاونوه ومستشاروه، ينظرون في شئون الناس ويضعون الخطط والمشاريع لبناء دولة قوية مهابة الجانب، ويكون هناك جهاز قضائي يفصل الخصومات بين الناس بأحكام شرعية مستنبطة من الكتاب والسنة، ويكون في الدولة جيش منظم يكون دائما على الثغور حيث يحمي الدولة ويضم أو يفتح البلدان المتاخمة لدولة الخلافة، ويكون في الدولة ولاة وعمال يقومون بمعاونة الخليفة في تطبيق الإسلام في مناطقهم، ويكون في الدولة بيت لمال المسلمين، حيث تُجمع فيه إيرادات الدولة وينفق منه لسد حاجات الناس ورعاية شئونهم، ويكون في الدولة أجهزة إدارية تقوم بتوفير وإدارة احتياجات الناس اليومية، من تعليم وتطبيب وطرق ومدهم بالماء والكهرباء وغيرها، وتبني بنى تحتية وتعمل على تطويرها مستخدمة أرقى التقنيات الحديثة.
هذه بعض الأمور التي يجب أن تتوفر في دولة الخلافة، لا أن يكون الخليفةُ مجهولَ الأصل والفصل، ولا يعرف له مكان ولا يأمن على نفسه من الأعداء علاوة على عجزه عن توفير الأمن لعامة الناس، وبعد ذلك يُطلق على هذا الرجل لقب "خليفة"! هذا إضافة إلى أنّ الخليفة يجب أن يُنصب بالطريقة الشرعية التي نص عليها الشرع، فالخلافة عقد مراضاة واختيار، لأنها بيعة على الطاعة لمن تتحقق فيه شروط البيعة ليحكم بالشرع. فلا بد فيها من رضا من يُبَايَع ليتولاها، ورضا المبايعين له. ولا يجوز أخذ البيعة من الناس بالإجبار والإكراه، لأنّها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار، كأي عقد من العقود. ولا يكون مَنْ يلي أمر المسلمين خليفة إلا إذا بايعه أهل الحل والعقد في الأُمة بيعة انعقاد شرعية، بالرضا والاختيار، وكان جامعاً لشروط انعقاد الخلافة، وأن يبادر بعد انعقاد الخلافة له بتطبيق أحكام الشرع.
إنّ دولة الخلافة على منهاج النبوة التي بشر بها رسول الله e بعد الحكم الجبري، تكون منارة للبشرية، تحكم بالإسلام بالعدل، فيأمن الناس على أنفسهم، وتكون محط أنظار الغربيين المكتوين بنار الرأسماليين عندهم، فيخرجون إلى الشوارع مطالبين حكوماتهم بالتنحي وإعلان الإسلام نظام حياة لهم. لا أن يتم تجييشهم لقتال "وحوش الغاب الذين يتفننون في قتل الناس بالذبح والحرق والإغراق".
يجب أن تعي الأمة الإسلامية وخصوصا الشعوب الثائرة أنّ مسيرة العمل الجاد لإقامة الخلافة على منهاج النبوة ما زالت مستمرة، وأنّ خلافة تنظيم الدولة ليست إلا لغواً، فلا هي دولة ولا هي خلافة، ويجب على المخلصين من الأمة ومنهم المجاهدون وضع يدهم وثقتهم بأصحاب مشروع الخلافة على منهاج النبوة الحقيقيين وفي مقدمتهم حزب التحرير، ففي ذلك تبرئة للذمة وتحقيق للغاية التي تتطلع لها الأمة فتخلصها من ظلم الغرب وجشعه، ومن جهل الجاهلين بأحكام الإسلام وطريقة تطبيقه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
رأيك في الموضوع