إن الأكراد كمجموعة عِرقية قومية يبلغ تعدادها - بحسب إحصائيات مختلفة - قرابة (27 – 40) مليون نسمة، موزعين على أربع دول رئيسة هي: تركيا وإيران والعراق وسوريا، فضلا عن مناطق الشتات في أوروبا وباقي دول العالم. ويتألف كيانهم الاجتماعي من قبائل متنوعة تشبه إلى حد كبير قبائل العرب، وكان يحكمهم قادة وزعماء في إمارات متجاورة، شأنهم في ذلك شأن سائر الناس. وموطن الأكراد ذو طبيعة جبلية وعرة تمتد بين البلدان المذكورة آنفا، وقد كانوا عبر التاريخ يخضعون للسيطرة الفارسية والرومانية.
اعتنق الأكراد الدين الإسلامي طواعية من غير إكراه، إذ إن أكثر البلاد التي كانوا يقطنونها فُتِحت سِلماً، لأن كثيراً من أهلها أسلم طوعاً قبل فتح بلده إبَّان خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد حسن حالهم في الإسلام، فكان منهم رجالات العلم والأدب، ويُذكرُ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن النديم صاحب موسوعة «الفهرست»، وابن فضلان وابن خلكان وابن الأثير، وابن الصلاح وغيرهم من العلماء والمفتين، فضلا عن إسهامهم في الفتوحات الإسلامية بعد ذلك.
لقد ظلَّ الأكراد يتمسكون بأهداب الإسلام مخلصين لعقيدتهم الإسلامية، كما أنهم أصبحوا جنودًا للخلافة الإسلامية في شتى عصورها، شأنهم كشأن سائر الأقوام والأعراق التي صهرها الإسلام برحابة أحكامه الربانية، فأصبحوا سندًا ومُدافعًا أمينًا عن الثغور الإسلامية في وجه الروس والبيزنطيين وحلفائهم من الأرمن والجورجيين، أما دورهم في مقاومة الصليبيين والباطنيين تحت قيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي فمشهور.
ثم بدأت أفكار القومية بالانتشار شيئا فشيئا في الشرق مع بدايات القرن التاسع عشر؛ حيث بدأت الدول الأوروبية تحتك بكردستان عن طريق الرحّالة الأجانب والإرساليات التبشيرية، وكذلك عن طريق بعض القنصليات، وأهمها البريطانية والروسية والفرنسية ثم الأمريكية، لا سيما بعد ضعف الخلافة العثمانية وخسارتها الحرب العالمية الأولى بالاشتراك مع ألمانيا، حيث قاتل الأكراد مع الدولة العثمانية ومُنوا بخسائر فادحة، حالهم كحال كثير من الشعوب.
وقد مارست كل هذه الجهات أدوارًا مهمةً في تحريض العشائر الكردية ضد الدولة العثمانية خاصةً، ثم الإيرانية، لكي يحصلوا على مزيد من الامتيازات، أو يزداد نفوذهم في الدولة العثمانية خاصة؛ وذلك بغية تحقيق هذه الدول الأوروبية مآربها في إثارة القلاقل داخل الدولة العثمانية؛ لتزيد من ضعفها عن طريق إثارة المشاكل الداخلية. ثم ظهرت الأحزاب القومية التي أوحى الكفار بتأسيسها في المجتمع الإسلامي، لتمزيق النسيج الواحد لأمة الإسلام، بأن تفكر كل قومية بالانفصال عن جسم الدولة العثمانية الراعية لشؤونهم والمدافعة عنهم، ليؤول الأمر إلى ضعف المسلمين وتشتتهم، وإغراقهم في مشاكل ومآسٍ جمة، وبالتالي إزالة أنظمة الإسلام من المسرح الدولي بعد هيمنة دولة الخلافة الإسلامية قرونا عديدة على معظم بقاع الأرض.
ودخلت القضية الكردية منعطفًا جديدًا مع اشتداد الصراع الدولي في المنطقة، وخاصةً بين بريطانيا وروسيا؛ إذ أخرج هذا الصراع القضية الكردية من الحيز الإقليمي إلى النطاق الدولي، فقد بدأت روسيا ثم بريطانيا في وقت مبكر اتصالاتهما بالأكراد كما حاولت فرنسا الأمر ذاته. كما كانت أمريكا موجودة في المنطقة على عكس ما كان شائعًا من تطبيقها لمبدأ "مونرو" الذي يؤكد على عدم التورط في المشاكل السياسية خارج أمريكا.
وفي خضم تلك الأحداث، ضُرِبَت الجهود الكردية للاستقلال في مقتل إثر اتفاقية سايكس بيكو عام (1916م)؛ حيث اجتمع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية، ودارت بينهم مباحثات سرية حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط، بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة، وتضمنت الاتفاقية تقسيم تركة الدولة العثمانية، وبما أن القسم الأكبر من كردستان كان تحت السيطرة العثمانية، فقد شملها التقسيم، وهذا الوضع الجديد عمَّق بشكل فعّال من تعقيد المشكلة الكردية؛ حيث تُعَدُّ معاهدة سايكس بيكو أول معاهدة دولية اشتركت فيها ثلاث دول كبرى، وحطمت الآمال الكردية في تحقيق حلمهم في تقرير المصير.
وقد نفذ الكفار أعداء الإسلام جريمتهم النكراء بتقسيم بلاد المسلمين، ورسم حدود مصطنعة خبيثة، أريد لها أن تولّد المشاكل بين الكيانات السياسية الجديدة، ومنها (كردستان) أعني موطن الأكراد عموما حيث وُزِّعت على أربعٍ من تلك الدول، لتكون جيوبا لكل طامع ومستعمر خبيث يُحرك أوضاعها متى يشاء بما يضمن له سببا للتدخل في شؤون المسلمين. وهكذا نرى الكفار يتشدقون بما يُعرف "بحق تقرير المصير" للشعوب، ولكن كلما بادر أرباب الانفصال من تلك القوميات بالمطالبة بتحقيق أحلامهم، وضع أسيادهم في طريق ذلك العقبات بحجة أو بأخرى، وهم يستثمرون تلك الظروف لتحقيق أهداف معينة.
وفي عام 1931م بدأ الأكراد في القيام بالثورة ضد الدولة الإيرانية والعراقية والتركية؛ وذلك بقيادة عائلة البارزانيين الذين ظهروا على مسرح الأحداث منذ 1908م، والذين عُرِفوا بالسيادة والقيادة الدينية والعسكرية، وكان من أبرزهم الشيخ عبد السلام الذي قاد الأكراد لمقاومة القوانين الجديدة التي فرضها نظام تركيا الفتاة العلماني، وأعلن الثورة المسلحة ضدهم حتى تمَّ الصلح عام 1909م، ولكن السلطات التركية قامت بعد ذلك بإعدامه عام 1914م؛ وكان منهم الشيخ أحمد البارزاني الذي اتصف بالقسوة حتى مع الأكراد، ثم ظهر المُلا مصطفى البارزاني (ومن بعده ولدُهُ مسعود بارزاني) على مسرح الأحداث في هذا الوقت ولفترة طويلة خاض فيها معارك كثيرة، وأعلن التمرد على الحكومة العراقية، وتنقَّل بين العراق وتركيا وروسيا، وحُدِّدَت إقامته لمدة عشر سنوات في الناصرية، ثم السليمانية، ثم فرَّ من منفاه؛ ليتزعم الحركة الثورية الكردية، ويؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني. ثم ظهر حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني، وفي تركيا قبل ذلك حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان.
وهكذا استغل أرباب الانفصال على أساس القومية والعرقية، أذناب دول الكفر والاستكبار، استغلوا جماهيرهم المضلَّلة في حمل السلاح واستباحوا دماء إخوانهم من العرب أو الترك والفرس، وسقط منهم ضحايا كثيرة على أمل (أو سراب) الاستقلال، في العراق وتركيا وإيران ثم في سوريا كما هو جارٍ الآن في ثورة الشام المباركة، وصار كل فريق يقاتل عن بني جنسه وعِرقه تمهيدا لاقتسام (الكعكة) كما يسمونها. كل هذا يجري بعد أن كانوا أمة واحدة لقرون طويلة يحملون التابعية للإسلام، ويعتزون بدينهم، فاستبدلوا ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ وباتت مواطنهم أوكارا للكفار المعتدين يحوكون فيها المؤامرات الشريرة، وصاروا وقودا لحرب لا نهاية لها، وأدواتٍ ومعاولَ بيد الأعداء يهدمون بها ملك أمتهم العظيم بلاد المسلمين التي فتحها أصحاب رسول الله r فمن بعدهم من السلف الصالح ورَوَوْها بدمائهم الزكية. وقد أصاب دعاة الاستقلال ما أصابهم جراء ثقتهم بأعداء دينهم من الكفار المستعمرين، والسير وراء سراب مشاريعهم الخداعة، مخالفين بذلك شريعة ربهم عزَّ وجلّ بالحذر من اتخاذ الأعداء بطانة ومستشارين يأتمنونهم ويطلعونهم على أسرار بلدهم وأمَّتهِم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾.
وفي الختام، نسأل مريدي الاستقلال، ودعاة القومية وحق تقرير المصير، ما الذي حصدوه بعد كل ما أصابهم من معاناة، وما بذلوه من تضحيات أضرَّت بدينهم ودنياهم وبني جنسهم، وباعدت بينهم وبين إخوانهم المسلمين من كل الأعراق والأجناس، الذين ألَّف الله بين قلوبهم على طاعتهِ سبحانه؟ هل حازوا غير الولوغ في دماءٍ محرَّمةٍ، وفقدان الطمأنينة، والوقوع أسرى وعبيدا في شِراك (الأسياد) المتشاكسين والمتلاعبين بمصائرهم ومستقبلهم، حتى يستنفدوا آخر برميل للنفط في أرضهم بحُجج مكافحة الإرهاب؟، فلا هم بدينهم وأمَّتِهِم، ولا هم بتحقق آمالهم في مشاريع التقسيم والتمزيق التي حرَّمها ربهم. فكلما أزيحت معضلة ظهرت أعظم منها، ولن تنقضي عجائب الكفار الغزاة حتى تظهر دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، لتهدم قواعد مكرهم ومؤامراتهم، وتقتص من كل ظالم ومعتدٍ. اللهم عجل لنا بفرَجك العظيم ونصرك الموعود حتى تعود الأمة كما كانت، بل كما أحببتَ يا رب العالمين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع