لا شك أن الاستراتيجيات والتكتيكات التي اعتمدتها غالبية الدول حول العالم وفقاً لتعليمات وإرشادات منظمة الصحة العالمية، أدت إلى تباطؤ الاقتصاديات في جميع أنحاء العالم، تلاها الانزلاق في كساد عميق خاصة في الاقتصادات الكبيرة كما هو الحال في أمريكا والصين وأوروبا. حيث تميزت هذه الحقبة بالملايين من الوظائف المفقودة، والأعمال التجارية المتوقفة، والطائرات المتوقفة عن الطيران، والمركبات البرية والبحرية، والتوقف شبه الكامل للتجارة الدولية، والتخلف عن سداد مليارات الدولارات في القروض المصرفية، وهذه ليست إلا بعض مظاهر الكساد الاقتصادي.
ليس من الصعب القول إن الاقتصاد العالمي كان يقترب أكثر فأكثر لتفجير فقاعة قروض الدول والشركات والأفراد، والتي تجاوزت مستوى التسامح وكانت على وشك الانفجار في أي وقت. كان هذا هو الحال قبل اندلاع جائحة كورونا. وبالتالي، سمحت جائحة كورونا للفقاعة بالانفجار من الداخل بدلاً من الانفجار الخارجي المهيل، وبالتالي السماح لدول مثل أمريكا بالسيطرة على تأثير الانهيار، أو على الأقل تأخير تأثيره. فقد خصصت أمريكا أموالاً (افتراضية) تجاوزت 9 تريليونات دولار في العام 2020 وحده وهي تعادل 22% من مجموع الدولارات المتداولة عالميا. ولا تزال تعد بإضافة المزيد إلى الاقتصادات المتعثرة.
بدأ النظام المالي في جميع أنحاء العالم يشعر بالتأثير الكارثي بسبب تريليونات الدولارات التي تمت طباعتها وإغراقها في اقتصاد عالمي غير قادر على الاستجابة والمضي قدماً، ما أوجد حالة من التضخم أصابت معظم اقتصاديات العالم، والتي بدأت تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للشعوب في أمريكا وغيرها من حيث ارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة.
بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في التفكير وتقوية رؤيته لتنفيذ نظام مالي جديد ربما يؤدي إلى الابتعاد عن الدولار مقابل طلب النفط، والذي استمر لـ47 عاماً؛ وذلك لإعادة تركيز أهمية الدولار من جهة، ولتمكين بنك الاحتياط الفيدرالي من رفع سقف إنتاج الدولارات بشكل كبير دون إحداث موجات من التضخم التي ترهق كاهل الأنظمة الاقتصادية في العالم.
في غضون ذلك، بدأت بعض الدول تعرب عن عدم ارتياحها لهيمنة الدولار على اقتصادات العالم وأنظمته المالية. وبدأت تفكر بانتهاج سياسات مالية بمنأى عن الدولار وهيمنته. وخلال وباء وجائحة كورونا، ونتيجة لحرب أسعار النفط التي شنتها أمريكا عبر عميلتها السعودية، عززت الصين وروسيا معارضتهما القوية لاحتكار الدولار لسوق النفط. ووقعت الدول الثماني الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون، بما في ذلك الصين وروسيا والهند، معاهدة في 20 آذار/مارس 2020 حيث اتفقت الدول الأعضاء على إجراء تجارة واستثمارات ثنائية وإصدار سندات بالعملات المحلية والوطنية بدلاً من الدولار الأمريكي. وقد توسعت هذه الظاهرة لتشمل دولا أخرى بما عرفت بمجموعة بريكس التي تشمل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
وتعتبر التجارة النفطية في سوق شنغهاي العالمي باستخدام العملة الصينية (رنمنبي) أهم تحدٍ للدولار النفطي (البترودولار) من خلال صفقات البيع والشراء في سوق Shangahai International Energy Exchange (INE). واللافت للنظر أنه بالرغم من كثرة الحديث عن التحدي الذي تشكله مجموعة بريكس وتحالف شنغهاي إلا أنه في الوضع الحالي لا يشكل بيع النفط خارج السيطرة الأمريكية أكثر من 5% من حجم التجارة النفطية على مستوى العالم، كما يبين الرسم التالي (النقاط الحمراء تمثل التجارة من خلال INE)
أدت الخطط المنبثقة عن تحالف شنغهاي والتحالف الرباعي (الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران) وتحالف بريكس الخماسي لمحاولة الابتعاد عن هيمنة الدولار، إلى إحداث رأي عام عالمي مفاده أن التوجه نحو بيع النفط بالعملات المحلية قد يحرم بنك الاحتياطي الفيدرالي من طباعة وإصدار دولارات لتغطية تجارة النفط، وجزء كبير من التجارة الدولية. لقد أوردت نيويورك تايمز يوم 23/3/2022 عن بوتين قوله إن على الدول غير الصديقة (التي فرضت عقوبات على روسيا) أن تدفع مقابل شراء البترول والغاز الروسي مستخدمة العملة الروسية الروبل، والذي من شأنه التقليل من هيمنة الدولار على سوق التبادل التجاري في مجال النفط.
ولكن الحقيقة التي لا تزال ماثلة للعيان أن هذه الأوضاع لا تشكل تهديدا حقيقيا لمكانة الدولار أو على الأقل تحجيم قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على إصدار كميات كبيرة من الدولارات مقابل تجارة النفط من خلال الدولار، والتي تصل في الأوضاع الطبيعية إلى ما يقارب 5 تريليون دولار سنويا. ثم إن قيام دولة مثل السعودية والمعروفة بخضوعها للسياسات الأمريكية سياسيا وتجاريا بتوقيع اتفاقيات لبيع النفط بغير الدولار لبعض الدول، يشير إلى أن أمريكا لا تعتبر مثل هذا التوجه تهديدا لمصالحها، بل على العكس فقد يشير إلى توجه أمريكي للاستفادة من هذا الوضع. ولعل هذه الظروف تحديدا هي التي تساعد على تحرك بنك الاحتياطي الفيدرالي نحو إحدى خططه البديلة للحفاظ على تفوق الدولار وعلى إمكانية إصدار كميات هائلة من الدولارات تفوق ما يصدره حاليا من خلال تجارة النفط بالدولار بمرات عدة، ومن دون أن يُحدث تضخما ماليا كبيرا كما هي الحالة الآن؛ وذلك باستخدام ما أطلق عليه بنك الاحتياطي الفيدرالي "خطوط المبادلة" (Swap Lines).
تقوم فكرة خطوط المبادلة على تمويل بنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي دولة معينة بكمية من الدولارات على شكل قرض قصير الأجل، مقابل رهن عملة الدولة، بحيث تتمكن الدولة من تمويل جميع احتياجاتها وسد العجز في ميزانيتها، ودفع ربا القروض المترتبة عليها. ويصبح الفيدرالي الأمريكي المصدر الأكبر للقروض العالمية بدلا من البنك الدولي ونادي باريس، والذي يعتمد على تمويل ومشاركات الدول في العالم. فالبنك الفيدرالي الأمريكي لا يحتاج للتمويل من أي طرف، فهو منتج الدولارات الأساسي، ولكنه يحتاج لسبب لإنتاجها. ففي الوضع الحالي السبب الرئيس الذي يعتمد عليه البنك الفيدرالي لإنتاج الدولارات هو تجارة النفط بالدولار، والقروض التي يقدمها للحكومة الأمريكية بموجب النظام الرئيس للبنك.
وسميت خطوط التبادل بهذا الاسم لأنه بموجب هذا النظام يتم تبادل العملة المحلية التي ينتجها البنك المركزي في دولة ما (كأستراليا مثلا) بالدولارات التي ينتجها البنك الفيدرالي حسب قيمة العملة المحلية للدولة وقت إجراء التبادل. ويتم إجراء العقود على شكل قروض قصيرة الأجل.
ويقدر السقف الأعلى لإنتاج الدولارات من خلال خطوط المبادلة هذه، بحوالي 25 تريليون دولار مقابل 5 تريليون فقط من خلال تجارة النفط وتقديم القروض للحكومة الأمريكية. بمعنى أن الاحتياطي الفيدرالي سيتمكن من رفع سقف إنتاج الدولارات (دون أي تجارة عالمية بالدولار) إلى خمسة أضعاف ما يتم إنتاجه الآن. ولعل سياسة الفيدرالي هذه والتي رشحت خلال جائحة كورونا، هي التي تفسر انتشار الحديث الساخن حول أزمة الدولار، وتراجع التجارة الدولية بالدولار، وتهديد العملات المتدنية كالروبل الروسي والرنمنبي الصيني، والتومان الإيراني، والريل البرازيلي.
أما سياسة البنك الفيدرالي الأمريكي والتي تعبر عن خطة أمريكا المتعلقة بالنظام العالمي الجديد والابتعاد عن الاعتماد على تجارة النفط بالدولار، واعتماد خطوط المبادلة كبديل استراتيجي، فإنها تهدف إلى تمكين بنك الاحتياطي الفيدرالي من أن يكون أكبر مصدر لتقديم القروض بالدولار لغالبية دول العالم وليس فقط للولايات المتحدة وحكومتها، كما أشار إلى ذلك الدكتور المؤرخ آدم توز في قوله "لقد مثل قبول بنك الاحتياطي الفيدرالي لمكانته كمقرض عالمي وحيد من خلال خطوط المبادلة بحكم الأمر الواقع كملاذ أخير، ثورة في النظام المالي العالمي". والحقيقة أنه مع البحث عن نظام عالمي جديد من الناحية السياسية كان لا بد من استغلال الفرصة لإحداث تغيير جوهري في النظام المالي العالمي والذي تمثل منذ عام 1974 بما عرف بالبترودولار أي مقايضة البترول السلعة الأهم عالميا بالدولار بعد أن تم تحرير الدولار من معاهدة بريتون وودز وارتباطه بالذهب عام 1972.
ومن الناحية السياسية، فإن أمريكا من خلال سماحها أو عدم اعتراضها على توسع تجارة النفط بمعزل عن الدولار، فإنها ستشجع لاحقا هبوط سعر النفط إلى مستويات متدنية تجعل من الدول التي تعتمد بشكل كبير على تجارة النفط تفقد أهم مصدر لتمويل اقتصادها مثل روسيا. وفي الوقت نفسه تكون أمريكا قد وجدت بديلا عن ربط النفط بالدولار، ويصبح بإمكانها التخلي عن البترودولار، واستبدال ذلك بما قد يعرف لاحقا بدولار التبادل (SwapDollar) والذي قد يرمز له بالرمز (S$).
رأيك في الموضوع