ذكرنا في الحلقة السابقة بعض النتائج والآثار الاقتصادية الخطيرة المترتبة على الحرب الأوكرانية، وما يمكن أن يترتب عليها من أمور جديدة. إن هذه الأمور وغيرها مما يتدحرج، أو يتولد في خضم هذه الأزمة الكبيرة؛ سوف يكون له تأثير مدمر على الاقتصاد العالمي، ولن ينجو منه دول صغيرة أو كبيرة، وربما يجرّ إلى انهيار دول بأكملها، أو تفكك شراكات دولية؛ مثل الشراكة في الاتحاد الأوروبي، أو الشراكة بين الصين وروسيا. والأخطر من هذا وذاك: أن هناك دولا مرشحة للفوضى والمشاكل بين الشعوب والأنظمة الحاكمة. ولا يستبعد أن تعود الثورات في العالم العربي على وجه الخوص من جديد بسبب الكوارث الاقتصادية المنظورة؛ وربما تكون أشد مما حدث سنة 2010. وبالتالي فسوف تؤدي هذه الثورات المتجددة إلى انهيار أنظمة في البلاد الإسلامية.
إن أخطر ما في هذه الأزمة هو تأثيرها على الاقتصاد العالمي؛ وأخطر تأثير ما إذا تدحرجت الأمور إلى كساد اقتصادي كبير؛ فيكون وقعه أشد مما جرى سنة 1929. وربما يواكبه انهيارات كبيرة جداً في أسواق المال والعملات وغير ذلك، ومن الأمور التي تتأثر اقتصاديا بشكل مباشر في ظلّ هذه الأزمة:
1- الارتفاع السريع لأسواق البترول والغار، وما يجلبه ذلك من تأثيرات على الصناعات والاستيراد والتصدير العالمي، وعلى كافة مفاصل الاقتصاد في العالم؛ لكونه على صلة بكل الأمور الأخرى. ففي رسالة إلى الرئيس بايدن في 26/3/2022 من السناتور الأمريكي مارك كيلي دعاه فيها فقال: (مع استمرار روسيا في هجومها على أوكرانيا، يمكن أن يظل متوسط سعر النفط الخام أعلى من 100 دولار للبرميل، ويدفع سعر النفط العادي الخالي من الرصاص أعلى مما هو عليه الآن) وتابع: (لا يمكن للأسر الكادحة أن تستمر في تحمل المصاعب الاقتصادية لارتفاع أسعار الغاز؛ بينما تدفع بالفعل ثمن أغلى مقابل البقالة والأدوية.. حتى قبل الأزمة في أوكرانيا، كانت عائلات أريزونا تكافح مع تكاليف التضخم).
2- تفاقم الأزمة الغذائية العالمية وشحّ المصادر؛ والسبب هو تعطل قسم كبير في مناطق الإنتاج الرئيسة في العالم في روسيا وأوكرانيا. وهذا الأمر سيولد مشاكل كثيرة على الدول الغنية والفقيرة، ويكون وقعه أكبر على الدول ذات الدخل المتدني.. فقد حذّر رئيس برنامج الأغذية العالمي ديفيد بيسلي) في 8/3/2022، من أن الصراع في أوكرانيا يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم، ما سيكون له تأثير فادح على سكان الدول الفقيرة. وقد ذكر صندوق النقد الدولي في هذا العام 2022 في تقرير حديث: أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت بنسبة تتجاوز 30% خلال العام الماضي، وهي أسرع وتيرة منذ أكثر من عقد، وفقاً للأرقام المعدلة حسب التضخم من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وكانت قراءة شهر فبراير الماضي هي الأعلى منذ عام 1961 فيما يتعلق بمقياس تتبع أسعار اللحوم ومنتجات الألبان والحبوب والزيوت والسكر. وقال كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمي عارف حسين للفرنسية: (هذا مقلق جدا). وقال: (على الدول الغنية أن تكون مستعدة لانتفاضات في إفريقيا، وأمريكا اللاتينية وآسيا مشيرا إلى أن السخط يعم بشكل واسع، وتابع: في مواقف من هذا النوع لا يتطلب الأمر سوى شرارة واحدة؛ يمكن أن يكون سعر المواد الغذائية أو مجرد هطول أمطار كارثية.. ففي 2007-2008 أدى الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية الأولية إلى أعمال شغب؛ بسبب الجوع في مدن عدة في العالم، بلغت الأسعار ذروتها في 2010-2011).
3- ما يجري من اضطرابات في أسواق المال وأسعار السلع والخدمات، والتذبذب السريع والمتقلب في أسعار العملات خاصة الدولار واليورو والروبل وتأثير ذلك على العملات الأخرى. فقد حدثت اضطرابات في أسواق المال في بداية الأزمة، وبقيت الأمور في حالة ترقب مستمر.. وهذا له تأثير قوي على التجارة العالمية وعلى البورصات بشكل مباشر؛ وذلك بسبب الخوف والهلع من حدوث هزات قوية في السوق المالي. يقول كرايج إرلام الخبير الاقتصادي ومحلل أسواق المال (إن تجنب المخاطرة ساد الأسواق بعد تصاعد الأزمة في أوكرانيا، وهو ما حث المستثمرين على إعادة توازن محافظهم متجهين من أسواق الأسهم إلى أسواق السلع وغيرها من أصول الملاذ الآمن).
4- الإحجام عن القروض والمساعدات للدول الفقيرة، أو تنقيص قيمتها بسبب نفقات الحرب خاصة دول الاتحاد الأوروبي. وهذا له تأثير قوي على سياسات تلك الدول. فدولة مثل تونس تحتاج إلى اقتراض 7.2 مليارات دولار من بينها نحو 5 مليارات دولار في صورة قروض خارجية، وهذا يضعها أمام خيارات صعبة في ظل الظروف الحالية خاصة إذا أحجم صندوق النقد الدولي عن الإقراض نتيجة الظروف الدولية السائدة.
5- حرمان بعض الدول من مدخراتها المالية، وما يجر ذلك من نقص في السيولة المالية وبالتالي تأثر كل القطاعات الاقتصادية بذلك كما هو حاصل مع روسيا بسبب العقوبات. وقد انخفض سعر الروبل أمام الدولار فأصبح 100 روبل للدولار، ورفع البنك المركزي أسعار الربا لتصل إلى 20% مقارنة بـ9.5% في 28 فبراير، كما أفرج البنك عن احتياطيات بقيمة بلغت حوالي 7 مليارات دولار، وأصدرت السلطات الروسية تعليمات للمصدرين المحليين ببيع 80% من احتياطي النقد الأجنبي لديهم، وتم حظر التحويلات المالية للخارج من الروس، وهي إجراءات قد تمنع مزيد من حدوث تدهور قياسي للعملة الروسية قريباً. وهذا له تأثير مباشر على الاقتصاد الداخلي من حيث العمليات التجارية والصناعات والإنفاق على المشاريع.
6- التأثير المباشر على النمو الاقتصادي بسبب إحجام المستثمرين عن أعمال جديدة أو تطوير أعمال قديمة أي دخول النمو في حالة جمود وانكماش. يقول الباحث خالد منشاوي من جامعة القاهرة: (خسائر الأزمة الأوكرانية تتجاوز تريليون دولار.. وأول المخاطر التي تنتظر الاقتصاد العالمي تتمثل في تراجع معدلات النمو، حيث أربكت الحرب الحالية في أوكرانيا الاقتصاد العالمي بشكل غير مسبوق، وأضعفت من ثقة المستثمرين والمستهلكين في النشاط الاقتصادي العالمي، وسط ارتفاع تكاليف أسعار السلع الأساسية؛ ومنها الطاقة والغذاء، وارتفاع تكاليف المعيشة للعديد من الأسر حول العالم).
7- إضافة نفقات جديدة على حساب أخرى في بعض الدول مثل نفقات اللاجئين وما يترتب على ذلك من انحسار الأمور الأخرى.. فقد قدمت بولندا تقريرا أوليا إلى مفوضية اللاجئين جاء فيه أن النفقات المقدمة من الحكومة البولندية للاجئين لهذا العام تصل إلى 2.2 مليار يورو، وهذا لا يشمل التعليم والخدمات الصحية.
8- تأثر قطاع السياحة في كثير من الدول خاصة أن بعض الدول تعتمد عليه بنسبة عالية.. وقد تأثر هذا القطاع كثيرا سابقا بأزمة كورونا ويزداد هذا الأمر في ظل الأزمة الحالية بسبب ارتفاع النقل والمواصلات وأسعار النفقات وغير ذلك. فقد أعلنت شركة لوفتهانزا، أكبر شركة طيران في أوروبا، أن تحويل مسارات الرحلات إلى آسيا سيبلغ مليون يورو شهرياً. وقال المدير المالي للشركة: إن الشركة ستحتاج إلى رفع أسعار التذاكر لتعويض ارتفاع أسعار الوقود والتكاليف الأخرى. وهذا الأمر قد يتسبّب بتراجع الطلب.
9- تأثر الدولار بشكل ملموس نتيجة إجراء معاملات تجارية للغاز والبترول بعملة الروبل؛ كما دعت روسيا واشترطت على الدول المتعاملة معها.. وهذا يشجع دولا أخرى مستقبلا للانعتاق من عبودية الدولار.. وهذا الأمر أي تأثر الدولار مستقبلا سيجر على دول كثيرة خسارات بالمليارات.
هذه بعض الأمور مما يتوقع أن تتأثر بالأزمة الحاصلة، وقد ينتج عنها تأثر أمور أخرى حسب تطور الأزمة وتطاير شررها هنا وهناك. فإلى أي حد يمكن أن تتفاقم الأمور وتتسع؟. وإلى أي حد يمكن أن تحدث مفاجآت؟. هذا أمر لا يعلم مجرياته ونتائجه إلا الله عز وجل. وفي نهاية الموضوع نقول: بأن المخرج من هذه الصراعات، وما يترتب عليها من مآس؛ هو فقط باتباع المنهج الرباني، وهذا لا يكون إلا في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع