دوندونو ذلك التاجر الجشع الذي لا يعرف الرحمة كما وصفه الأديب رابيليه بأنه يحتل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية، تشاجر مع بانوروج ذلك الرجل الخبيث الماكر، فقرر بانوروج أن ينتقم منه، فاشترى خروفا من خرافه التي كان يحملها على ظهر السفينة بسعر عال، وفي مشهد غريب أمسك بانوروج ذلك الخروف وألقى به في عرض المحيط، فما كان من الخراف الأخرى إلا أن اصطفت في طابور مهيب لتمارس دورها في القفز من السفينة، فجن جنون دوندونو وهو يحاول منع القطيع من القفز في الماء، ولكن محاولاته باءت بالفشل، فقد كان إيمان الخراف بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يقاوم، وبدافع قوي من الجشع حاول دوندونو الإمساك بآخر خروف آملاً في إنقاذه، إلا أن عزيمة الخروف أسقطتهما معا ليواجها ذلك المصير المحتوم.
هذه القصة رغم أنها من الأساطير الفرنسية إلا أنها وللأسف الشديد تحاكي الواقع المأساوي الذي تعيشه شعوب ما يسمى بالدول النامية، أو دول العالم الثالث. إن القروض التي يقدمها صندوق النقد والبنك الدوليان للحكام المتشبثين بالسلطة هي عين الصفقة التي تمت بين الخبيث الماكر بانوروج مع التاجر الجشع عديم الرحمة، فقد كان مصير الخراف هو عينه مصير تلك الشعوب المقهورة التي سقطت في أفواه حيتان الشركات الرأسمالية العابرة للقارات.
إن سياسات هذه المؤسسات المالية الكارثية الإجرامية لم تكن لتخفى على أحد، ولكن كتابتها على ورق شفاف موضوعة بعضها على بعض تمكن من الاطلاع عليها دفعة واحدة، علها تكون بمثابة حجر غليظ يلقى في بركة ساكنة من الاستسلام تحرك أمواجا متتالية من الإحساس بالظلم فتحدث تغييراً.
إن بشاعة تلك السياسات حركت مشاعر بعض خبراء الاقتصاد وهم في الأصل من ذوي العلاقات الوثيقة بتلك المؤسسات والذين طفح بهم الكيل، فنختار بعضاً من تصريحاتهم.
أشار ستغلتز، الذي شغل منصب نائب رئيس البنك الدولي ورئيس قسمه الاقتصادي، إلى أنّ الأركان الثلاثة لسياسات "توافق واشنطن"، التي اعُتبرت بمثابة الحلّ السحري للأزمات المالية والاقتصادية في دول الجنوب العالمي مهما اختلفت أنواعها وأسبابها، هي التقشّف في السياسات الإنفاقية والضرائبية، والخصخصة، ولبرلة أو انفتاح الأسواق المحلية وسوق المال بصورة خاصة، وقد حاجج ستغلتز في كتابه "خيبات العولمة" أنّ هذه السياسات أصبحت بمثابة مقدسات مطلقة لدى المؤسسات المالية الدولية في تلك الفترة، إذ طبقت كوصفات تلقائية من دون الاكتراث للسياق الاقتصادي أو لتداعياتها على أرض الواقع، ما أدى إلى نتائج كارثية في العديد من الدول النامية. فكان الصندوق يصرّ على الخصخصة في أسرع وقت ممكن كوسيلة لتحفيز القطاع الخاص، ما أدّى فعلياً إلى تبديد الثروات العامة وتركُّزها في أيدي فئات وشركات مقرّبة من الطبقات السياسية الحاكمة التي تدير عملية الخصخصة، أي من دون أن تنال الدولة شيئاً من الإفادة الموعودة من هذه العملية.
كتب لاري إليوت في صحيفة الجارديان، "وبالطبع لا يعترف البنك الدولي ولا صندوق النقد بأن سياساتهما هي المشكلة، حتى لو أثبت باحثون أن هذه المؤسسات الدولية هي في الواقع (أكبر صناع الفقر في أفريقيا). فمنذ سبعينات القرن الماضي، أصبحت المؤسستان اللتان تتخذان من واشنطن مقراً لهما، المهندس الرئيس للسياسات المسؤولة عن انعدام المساواة وتفاقم الفقر في العالم، خاصة في أفريقيا".
وصفت المسئولة السابقة في برنامج الأمم المتحدة للتنمية إيزابيل غرامبرغ السياسات التي يفرضها الصندوق على الدول الأعضاء، لا سيما النامية منها، والتي تؤدي في أكثر الأحيان إلى ارتفاع معدل البطالة وانخفاض في القدرة الشرائية، وتبعية خاصة غذائية، يضاف إليها تفكك للأنظمة الإنتاجية، وصفت هذه الأمور بالجريمة، معتبرة أن صندوق النقد الدولي ليس مشاركا فيها فقط بل إنه المايسترو الذي يدير نظاما شاملاً يسحب الأموال من الفقراء ليمول إنفاق أقلية غنية.
وكما وصفه الخبير الألماني أرنست غولف، أستاذ الفلسفة بجامعة بريتوريا في كتابه "صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية"، إن تدخلاته في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة.
ذكر جون بيركينز في كتابه الاغتيال الاقتصادي للأمم "إن صندوق النقد الدولي هو أحد أدوات الشركات العالمية لبناء إمبراطورية تسيطر على اقتصاد العالم، وتزعزع الدول وتنهب وتدمر اقتصاد الدول النامية".
لقد وصف هؤلاء الخبراء حجم المأساة التي تسببت فيها المؤسسات المالية، ولكن ما هو أصدق وصفا، وأقوى تعبيراً لرسم حجم المعاناة هو الحياة التي يعيشها الناس في كل ساعة وحين، والسودان خير مثال على الاستجابة المطلقة لإملاءات صندوق النقد الدولي القاسية، فقد رفعت الدولة يدها تماماً عن كل الخدمات، وتقديم أي نوع من الدعم للسلع الأساسية والخدمات فصارت الحياة قطعة من الجحيم المتصاعد لهيبه، ولم يبق إلا أن يأكل الناس بعضهم بعضاً! وهذا الأمر ليس قاصراً على السودان وأهله فحسب، بل هي سياسة عامة، ودونكم تقرير عن سياسات صندوق النقد الدولي في أفريقيا كتبه هربرت غلوشي: "كانت البلدان النامية غير قادرة على سداد فواتير القروض القديمة في عام 1980 بلغ مجموع ديون البلدان النامية 567 مليار دولار، وبين عامي 1980-1992 دفعت هذه الدول 1662 مليار دولار، ومع ذلك، وبسبب ارتفاع أسعار الفاتورة زادت الديون لـ1419 مليار دولار، على الرغم من أنها دفعت أكثر من ضعف الديون كسداد، بقي ضعفها أيضا دينا مستحق الدفع، وقد أجبرت هذه الدول على أخذ قروض جديدة لتدفع مستحقات الدين والحيلولة دون إعلان الإفلاس كما حدث في السودان ومؤخرا بما يسمى بالدين التجسيري".
إن كان بانوروج خبيثاً وماكراً حيث استخدم الحيلة للانتقام من شخص دوندونو، فإن صندوق النقد الدولي هو أشد مكراً وأكثر خبثاً، لأن برنامجه الاقتصادي الذي يفرض على الدولة نتائجه الكارثية يقع أثرها على الشعوب عامة وليس على الخراف، وإن كان تشبث التاجر الجشع أدى إلى هلاكه، فإن تشبث هؤلاء الحكام العملاء بالحكم أدى إلى هلاك شعوبهم.
إن سياسة صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من المؤسسات المالية الدولية، هي عبارة عن واجهات اقتصادية للنظام الدولي الذي يسعى للسيطرة الكاملة على شعوب العالم، وإن هذه الدويلات القطرية تبقى عاجزة عن مجابهة هذا النظام الدولي المتوحش، وهي في أصلها إنما صنعت ليكون دورها وظيفياً لتنفيذ هذه السياسات والسير في ركاب النظام الدولي.
وحينها لم يبق أمامنا سوى خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاستكانة للأمر الواقع والرضا بأن نكون لقمة سائغة في بطن الشركات الرأسمالية، فتهرسنا هرساً ثم تبتلعنا، أو الوقوف في وجه هذه السياسات. ومن حسن طالع المسلمين دون الشعوب الأخرى المقهورة أن لهم نظاما اقتصادياً يتميز بصحة معالجاته، ويملكون نظاما سياسيا يتمثل في الخلافة القادرة على الوقوف في وجه هذا النظام الدولي، وأن الله يدافع عنهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وضمن لهم النصر ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، فلم يبق للمسلمين إلا التحرك بأقصى سرعة لإنقاذ أنفسهم بنصرة الإسلام.
رأيك في الموضوع