في مقولة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل أنه "لا بد من تسليم الأمم الشبعانة والمكتفية حكم العالم، لأنهم أمم لا ترغب في أية زيادات عما تحوزها من ثروات، أما لو ترك أمر حكم العالم بأيدي الجوعى لوجدنا الخطر ماثلاً للعيان بصورة دائمة. فليس لأحد منا ما يدعوه إلى السعي في سبيل الاستزادة. والسلم لا تحفظه إلا الشعوب التي تعيش بطريقة خاصة بعيدا عن الطمع والجشع، فقد وضعتنا قوتنا في مرتبة أعلى من مراتب الشعوب الأخرى، فمثلنا مثل الأغنياء ينعمون بالسلام في مساكنهم وأوطانهم".
وكذلك كانت إدارة نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق ترى أنه "يجب القضاء على الفيروس الذي يشجع كل أولئك الأجانب الذين يتهيؤون لمقارعتنا، وإلحاق الأذى بنا من خلال محاولتهم تولي شئون مقدراتهم ومواردهم الخاصة بأنفسهم".
فإذا كانت نظرة تشرشل تعبر عن الاستعمار القديم، فإن مقولة نيكسون تعبر بوضوح عن الاستعمار الحديث الذي يهيمن على السياسة الدولية إلى يومنا هذا.
إن مقاربة تلك النظرتين الاستعماريتين، بما يجري في السودان تعطينا صورة ثلاثية الأبعاد تشخص بشكل دقيق تلك الحالة التي نعيشها في السودان، فإن كان للدور المحلي نصيب في رسم السياسة في السودان، وللمحيط الإقليمي دور لا تخطئه العين، فإن النفوذ الدولي هو من يرسم الخطط وعلى الآخرين تنفيذها على أرض الواقع.
إن محاولات الخروج عن الهيمنة الدولية، والتي جرت في دول عدة في العالم، وبخاصة في البلاد الإسلامية في الآونة الأخيرة، والتي تمت السيطرة عليها واحتواؤها، وكذا السودان بالرغم من محاولاته السابقة التي أجهضت، فإن المحاولة الأخيرة لا تسير بعيداً عن سابقاتها وفق الخطة المرسومة للوصول إلى المصير المحتوم. لذا كانت تطلعات الشباب الثائر، والمتعطش للانعتاق من التبعية، كان لا بد من احتوائها والسيطرة عليها من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين.
إن تركيبة الحرية والتغيير التي تمثل الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية في السودان، تتكون من عشرات المكونات السياسية والجهوية والقبلية والمناطقية، وهي تركيبة هشة وفرت تجربة خصبة لزراعة الفراغ السياسي، ومن جانب آخر نجد المكون العسكري وشراكته مع المكون المدني والخلافات الدائرة بينهما، والتي ظهرت بشكل سافر بعد المحاولة الانقلابية الأخيرة تشكل الشق الآخر من معادلة الفراغ السياسي، ما أضعف الحكومة وجعلها عاجزة عن الإيفاء بأبسط مقومات الحياة لشعبها فراهنت على المجتمع الدولي وارتمت في أحضان صندوق النقد والبنك الدوليين، فما زاداها إلا خبالا. بذلك تكون قد اكتملت أركان الفراغ السياسي ما أفقد الحكومة الانتقالية سندها الشعبي والذي تجلى من الموقف السلبي من المحاولة الانقلابية الأخيرة.
هذا الفراغ السياسي الذي أفضى إلى وجود حكومة هشة ضعيفة ومنهكة وفاقدة للهيبة، أوجد بدوره فراغاً أمنياً فكان ضغثا على إبالة فازداد الحال سوءاً. وقد برزت في الآونة الأخيرة دعوات وأحداث في غاية الخطورة، كالدعوات لحق تقرير المصير في شرق السودان، والتي صاحبها إغلاق مطارات وموانئ وطرق العامة، ودعوات أطلت برأسها في شمال السودان تطالب بالحكم الذاتي، وتصريح حاكم إقليم دارفور بأنه على استعداد لتخطي المركز، وكذلك ما يسمى بدولة الزغاوة، والتي حدودها دنقلا. هذه الدعوات تنذر بتهديد جدي لكيان الدولة نفسه، وهو ما يسميه المخططون السياسيون بالفراغ الاستراتيجي والذي يعتبر آخر مرحلة من مراحل بقاء الدولة متماسكة، وبمزيد من تسليط الضوء على هذا الفراغ وتضخيمه ونفخ النار فيه فإنه يمكن أن يؤدي إلى مصادمات شاملة تعصف بالدولة وتفتت ما تبقى من السودان لا سمح الله، حينئذ يتناسى الناس كل مشاكلهم ويكون الهم والهاجس الأوحد لهم هو المحافظة على كيان الدولة، وبأي ثمن فيكون الخيار العسكري مقبولاً إن لم يكن مطلوباً.
إن الديمقراطية التي يطالب بها الكثيرون، والتي يدعي الغرب أنه يدعمها ويعمل على نشرها، هي كذبة كبيرة، فالغرب يعمل بكل جد واجتهاد لوأد أي محاولة لتطبيق النظام الديمقراطي - رغم عدم جدواه - في هذه البلاد، وللشهادة سأذكر بعض تصريحات الساسة والمفكرين والحكام الغربيين:
- أوضح المجلس القومي الأمريكي "أن هنالك مفهوماً سائداً في العالم العربي مفاده أن الولايات المتحدة تدعم الديكتاتوريات، وتمنع الديمقراطيات لكي تضمن سيطرتها على موارد المنطقة، علاوة على ذلك فإن المفهوم هو مفهوم دقيق بصورة سياسية"، ويستطرد مجلس الأمن القومي قائلاً: "هو بالضبط ما ينبغي أن نكون عاكفين على القيام به".
- كتب المعلق الليبرالي البارز جيمس ريستون في مجلة التايمز: "لقد أجهز الانقلاب على الخطر الذي تشكله الديمقراطية بقضائه على حزب الفقراء السياسيين ذي القاعدة الشعبية الواسعة "يشير إلى دولة شيلي"، وأقام ديكتاتورية أمعنت في تجميع وتصنيف واحد من أسوأ سجلات حقوق الإنسان في العالم، وقدمت ثروات البلاد على طبق من ذهب للمستثمرين الأجانب".
- كتب رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة نيويورك تايمز: "إلى أولئك الطامحين للديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إن نتائج استطلاعات الرأي العربي أظهرت بوضوح لا يقبل النقاش أنه سيكون بمثابة كارثة بالنسبة لواشنطن، وجود تحركات وخطوط نحو إنشاء ديمقراطيات حقيقية فاعلة، حيث يكون للرأي العام تأثير على السياسة، كما شاهدنا فإن الشعب العربي ينظر إلى الولايات المتحدة بوصفها خطرا رئيسياً وسوف يطردها وحلفاءها من المنطقة حينما يتسنى له ذلك".
ويكفي أن نشير إلى تصريح جورج بوش الابن الذي قال: "لقد ظللنا ولمدة ستين عاماً ندعم الديكتاتورية في الشرق الأوسط". هذا ما قيل وأكثر، وقد باشرت الدول الغربية في إجهاض ما يسمى بالربيع العربي، ومن قبلها المحاولات في السودان، حيث تم الانقلاب على كل محاولات تحكيم الديمقراطية. وذلك لأن النظام الدولي لم ولن يسمح بأن يكون هناك نوع من الإرادة الذاتية لهذه الشعوب، ولو كانت ديمقراطية علمانية صريحة على النسق الغربي، وكذلك فإن الحكام في المحيط الإقليمي لن يسمحوا بذلك لأنها تهدد عروشهم.
ولكي نملك إرادتنا، لا بد من التعامل مع أضلاع المثلث الثلاثة، فلا مفر من فكرة سياسية توحد الداخل، وتملأ الفراغ، تكون نواة لتجييش المحيط الإقليمي الإسلامي، بل والبلاد الإسلامية بأسرها لتواجه به النظام الدولي وحينها يفرح المؤمنون بنصر الله.
رأيك في الموضوع