توالت الأزمات على لبنان منذ 17 تشرين الأول 2019، تاريخ بدء الحَراك الشعبي وما صاحبه من تقطيع لأوصال البلد وتدهور لسعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار هبوطاً من 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد إلى حدود لامست 20 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وما صاحب ذلك من غلاء فاحش وفقدان للسلع الأساسية.
وقد قلنا في مقال سابق في جريدة الراية العدد 353: "إنَّ ما يحصل في لبنان هو ضغوطاتٌ ممنهجةٌ مدروسةٌ، يتقاذفها فاسدو الطبقة السياسية... وصولاً لتطبيق ما يسمونه الإصلاحات التي يفرضها صندوق النقد والبنك الدوليان...".
ومع تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي بدا ذلك واضحاً جلياً لكل ذي بصر، فقد أسندت ثلاثة مناصب أساسية لموظفين سابقين عند صندوق النقد الدولي! هم نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي، ووزير المالية يوسف الخليل، ووزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام، وما زاد تأكيد الأمر هو ما تم إعلانه يوم 1/10/2021 عن توافق بين رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس الجمهورية ميشال عون على تشكيل وفد التفاوض مع الصندوق من الوزراء الثلاثة ذاتهم علاوة على رياض سلامة! والذي يفترض أن عون وصهره باسيل رئيس التيار الوطني الحر، أظهرا للناس خلال الأزمة وكأن رياض سلامة عدوٌ لهم ولحليفهم حزب إيران في لبنان.
لكن الواقع يقول: إنَّ عون وباسيل وسلامة كانوا يتبادلون الأدوار، برعايةٍ أمريكيةٍ، في خطوات مدروسةٍ لإيصال الناس إلى هاوية صندوق النقد الدولي، موهمين الناس أن الحل والخلاص يكون في دخول هذه المنظومة، كما بات يردد رئيس الوزراء نجيب ميقاتي وأقطاب وزارته، بل وحتى معظم السياسيين "الموالين والمعارضين"!
لكن هل بالفعل الدخول في هذه المنظومة الدولية هو الحل لمشكلة لبنان، وما جوهر المشكلة اللبنانية الاقتصادية؟
أولاً: من الناحية العملية، إنَّ المتابع لتاريخ صندوق النقد الدولي في دخول الدول يرى كيف غرقت هذه الدول في لجة هذا الصندوق، وكيف أصبحت القروض الربوية التي تعطيها هذه المؤسسات أحد المشاکل والأعباء التي تعاني منها تلك الدول لما تحتويه من شروط وتکاليف تمليها المؤسسات الدولية کضمان لديونها، وما تجارب البرازيل واليونان ومصر، واليوم السودان وتونس وباكستان إلا دليل على مدى الأذى الذي سببته القروض الربوية التي تقدمها هذه المؤسسات، ودخولها في عمق السيطرة على مقدرات الدول وقراراتها!
ثانياً: إنَّ فهم الحل الحقيقي لمشكلة لبنان يكمن في فهم حقيقة مشكلته الاقتصادية، فليست على الحقيقة هي عدم وجود الإمكانيات في البلد أو الخامات أو الزراعة، واليوم الثروات النفطية والغازية، بل النظرة العميقة تُظهر أن لبنان في سنواته التي خلت تحول إلى قاعدة للربا في المنطقة وربما أبعد من المنطقة، فقد قامت سياسات المصرف المركزي على رفع نسبة الربا على الودائع بالعملة الصعبة والليرة اللبنانية، حتى صارت مصارف لبنان ملاذاً لأن يضع الناس داخل البلد أموالهم في البنوك، رغبةً في العائد العالي والسريع، بل أصبح لبنان ملاذاً لأموالٍ ضخمةٍ من خارجه لأفراد ومؤسساتٍ بل لجهاتٍ حكوميةٍ، في وقت كانت الدول الرأسمالية (أرباب الربا) يتجهون نحو خفض نسبة الربا إلى حدود الصفر، بعدما ثبت التأثير السيئ لهذا النهج، الذي يدفع الناس إلى عدم الاستثمار في التجارة والبيع رغبةً في الربح الآمن عن طريق البنوك والربا، ما أدى في لبنان خلال السنوات الفائتة إلى تعطل الأعمال وإغلاق العديد من المؤسسات، بسبب إعراض الناس عن التجارة ذات الربح الأقل مقارنةً بالربا، ومخاطر التجارة مقارنةً بوضع الأموال في البنوك كما توهّم أصحاب هذه الأموال.
فاستيقظ أهل لبنان وغيرهم من خارج لبنان على صباحٍ قد حُجزت فيه أموالهم في البنوك، لا يعرفون مصيرها، ولا يملكون سحبها، وإن تَعَطَّفَ عليهم المصرف المركزي والبنوك، أصدروا قرارات تجعل صاحب المال كالمتسول على أبواب البنوك، يأخذ ما لا يكاد يسد حاجياته مع الارتفاع الفاحش في الأسعار، وفقدان الأمل باستعادة مالهم أو جزء كبير من مالهم الذي كان يدور في دائرة الربا، وتواتر المعلومات عن مليارات الدولارات التي هُربت خارج البلد لسياسيين وأصحاب نفوذ.
إنَّ جعل البلد يدور في دائرة الربا هو الحرب الحقيقية على البلد، ليس مع الدول الكبرى، التي لا يهمها سوى نهب البلاد والعباد، وها هي تُدخل لبنان لمنظومتها لتمتص الخيرات من تحت أرضه، بعد أن مكنت الفاسدين لسنوات طوال من نهب الخيرات من فوق أرضه، نعم ليست الحرب مع تلك الدول الكبرى، بل مع الله تعالى العزيز الجبار، أليس كلام رب العالمين المستقر في أرضه منذ 1443 عاماً يتردد بينكم يا مسلمي لبنان، وأنتم الغالبية من أهله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...﴾؟ ألستم تعرفون قول ربنا عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾؟!
ألستم تشعرون بهذه الحرب من الله القوي العزيز بعد أن جعلتم أوامره وراء ظهوركم؟! ألستم اليوم تتخبطون لا تدرون ما حال أموالكم وما ادخرتموه ورابيتم به؟! هل أدركتم كيف يمحق الله تعالى الربا؟!
إنَّ مختصر القول: لا حل لكم في صندوق النقد الدولي ولا في غيره من المؤسسات الدولية، فهي مزيدٌ من الربا، أي الحرب مع الله تعالى ورسوله ﷺ والتخبط والمحق. إنَّ الحل الحقيقي الجذري هو العودة الصحيحة لأوامر الله تعالى عملياً، في رفع صوتكم عالياً بإسقاط هذه المنظومة بنظامها وفاسديها، والالتحاق بركب التغيير في الأمة الداعي لقيام دولة الإسلام، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، الدولة الوحيدة المؤتمنة على أموالكم وأنفسكم لأنها الوحيدة المؤتمنة على شرع الله تعالى عقيدةً وأحكاماً عمليةً في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحكم ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
رأيك في الموضوع